فصل: باب: ما يذبح على النصب والأصنام

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


كتاب الذبائح

باب‏:‏ التسمية على الذبيحة ومن ترك متعمدًا

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ مَنْ نَسِىَ فَلا بَأْسَ، قَالَ تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 121‏]‏ وَالنَّاسِى لا يُسَمَّى فَاسِقًا،‏)‏ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ‏}‏ الآية‏.‏

فيه‏:‏ رَافِعِ، كُنَّا مَعَ الرسول صلى الله عليه وسلم بِذِى الْحُلَيْفَةِ، فَأَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ، فَأَصَبْنَا إِبِلا وَغَنَمًا، وَكَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فِى أُخْرَيَاتِ النَّاسِ، فَعَجِلُوا فَنَصَبُوا الْقُدُورَ، فَدُفِعَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمُ، فَأَمَرَ بِالْقُدُورِ فَأُكْفِئَتْ، ثُمَّ قَسَمَ، فَعَدَلَ عَشَرَةً مِنَ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ، فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ، وَكَانَ فِى الْقَوْمِ خَيْلٌ يَسِيرَةٌ، فَطَلَبُوهُ فَأَعْيَاهُمْ، فَأَهْوَى إِلَيْهِ رَجُلٌ بِسَهْمٍ، فَحَبَسَهُ اللَّهُ، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّ لِهَذِهِ الْبَهَائِمِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ، فَمَا نَدَّ عَلَيْكُمْ مِنْهَا فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا‏)‏، وَقَالَ جَدِّى‏:‏ إِنَّا لَنَرْجُو- أَوْ نَخَافُ- أَنْ نَلْقَى الْعَدُوَّ غَدًا، وَلَيْسَ مَعَنَا مُدًى، أَفَنَذْبَحُ بِالْقَصَب‏.‏

فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَكُلْ، لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ‏)‏، وَسَأُحْدثُكُمْ عَنْهُ‏:‏ ‏(‏أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ اختلاف العلماء فى التسمية على الذبيحة كاختلافهم على التسمية فى الصيد، وقد تقدم اختلاف العلماء فى ذلك، والحجة لأقوالهم فى أول كتاب الصيد فأغنى عن إعادته‏.‏

وقال أبو الحسن بن القابسى‏:‏ يمكن أن يكون أمره صلى الله عليه وسلم بإكفاء القدور من أجل أنهم استباحوا من الغنائم كما كانوا يعرفون فيما بعد عن بلاد الإسلام، وموضع الانقطاع عن مواضعهم، فهم مضطرون إلى ما وجدوه فى بلاد العدو كما جاء فى قصة خيبر أن قومًا أخذوا جرابًا فيه شحم فما عيب عليهم ولا طولبوا به، وقد مضى من سنن المسلمين فى الغنائم وأكلهم منها ما لاخلاف فيه‏.‏

وكانوا فى هذه القسمة بذى الحليفة قريبًا من المدينة، ولم يكونوا مضطرين إلى أكل الغنيمة فأراهم النبى صلى الله عليه وسلم أن هذا ليس لهم، فمنعهم مما فعلوه بغير إذنه صلى الله عليه وسلم فكان فى باب الخوف من الغلول، وقد تقدم هذا المعنى في كتاب الجهاد فى باب ‏(‏ما يكره من ذبح الإبل والغنم فى المغانم‏)‏ وذكرت هناك وجهًا آخر‏.‏

قال ابن القابسى‏:‏ ولو قيل إن معنى ذلك من قبل أنهم بادروا قبل القسم كان داخلا فى المعنى الذى ذكره، ولو قيل‏:‏ إنما كان ذلك من قبل أن الغنيمة كانت إبلا وغنمًا كلها لكان داخلا فى المعنى؛ لأن وجهه أنهم فعلوا ما ليس لهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ثم قسم وعدل‏)‏ ولم ينقل أحد أنه دخل فى ذلك قرعة، وما لم يدخله قرعة لا يضره اختلاف أجناسه فى القسمة فساووا فيه وتفاضلوا إذا رضوا بذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فند منها بعير‏)‏ يقال‏:‏ ند نديدًا وندادًا إذا شرد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فأهوى إليه رجل منهم بسهم فحبسه الله‏)‏ يعنى‏:‏ أن البعير حبسه الله بذلك السهم ومنعه من النفار الذى كان به حتى أدرك فذكى، وليس فى الحديث ما يمنع من هذا المعنى إذ لم يقل فيه‏:‏ فحبسه الله فمات، لما أنه أدرك فذكى وذكاته ترفع التنازع فى أكله وتصير إلى الإجماع فى أكله، وهو قولنا فيما غلبنا من المواشى الإنسية أنا نحبسها بما استطعنا فما أدركنا منها لم تنفذ مقاتله فذكيناه أكلناه، وإذا أنفذنا مقاتله لم نحمله محمل الصيد؛ إذ لم يأتنا فى ذلك شيء من تتبعه، فنحن فى صيد الوحش على ما أذن الله ورسوله وفى ذكاة الإنسى على ما جاءنا به حكم الذكاة، وسيأتى اختلاف العلماء فى هذه المسألة فى بابها، وفى سائر الحديث فى الذبح بالسن والظفر فى بابه إن شاء الله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏إن لهذه البهائم أوابد‏)‏ قال أبو عمرو الشيبانى‏:‏ قال النميرى‏:‏ الآبد‏:‏ التى تلزم الخلاء فلا تقرب أحدا، ولا يقربها‏.‏

وقال أبو عمرو‏:‏ قد أبدت الناقة تأبدًا وأبودًا إذا انفردت وحدها وتفردت، وتأبد أى‏:‏ تفرد‏.‏

وقال مرة‏:‏ هى آبدة إذا ذهبت فى المرعى، وليس لها راعى فأبعدت شهرًا أو شهرين‏.‏

وقال أبو على فى البارع فى باب وبد‏:‏ قال ابن أبى طرفة‏:‏ المستوبد‏:‏ المستوحش‏.‏

يقال‏:‏ خلوت واستوبدت أى‏:‏ استوحشت‏.‏

باب‏:‏ ما يذبح على النصب والأصنام

فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، عَنْ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَقِىَ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ بِأَسْفَلِ بَلْدَحٍ- وَذَاكَ قَبْلَ أَنْ يُنْزَلَ عَلَى النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم الْوَحْىُ- فَقَدَّمَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُفْرَةً فِيهَا لَحْمٌ، فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏(‏إِنِّى لا آكُلُ مِمَّا تَذْبَحُونَ عَلَى أَنْصَابِكُمْ، وَلا آكُلُ إِلا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ ظاهر هذا الحديث يدل أن زيدًا قال للنبى‏:‏ إنى لا آكل مما تذبحون على أنصابكم‏.‏

يوهم أن النبى كان يأكل ذلك، والنبى كان أولى باجتناب ذلك من زيد‏.‏

وقد جاء هذا الحديث مبينًا فى مناقب زيد بن عمرو فى كتاب فضائل الصحابة، بينه فضيل بن سليمان عن موسى بن عقبة ‏(‏أن النبى- صلى الله عليه وسلم- لقى زيد بن عمرو بأسفل بلدح- قبل أن ينزل الوحى على الرسول- فقدمت إلى النبى سفرة، فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد‏:‏ إنى لست آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا مما ذكر اسم الله عليه‏)‏ فالسفرة إنما قدمتها قريش للنبى صلى الله عليه وسلم فأبى أن يأكل منها، فقدمها النبى صلى الله عليه وسلم إلى زيد، فأبى أن يأكل منها، ثم قال لقريش الذين قدموها إلى النبى‏:‏ ‏(‏أنا لا آكل مما تذبحون على أنصابكم‏)‏‏.‏

ولم يكن زيد فى الجاهلية بأفضل من النبى، فحين امتنع زيد فالنبى الذى كان حباه الله لوحيه واختاره ليكون خاتم النبيين وسيد المرسلين أولى بالامتناع منها فى الجاهلية أيضًا‏.‏

قال الطبرى‏:‏ أنصاب الحرم‏:‏ أعلامه، وهو جمع نصب، وقد يجمع أيضًا‏:‏ نصبًا‏.‏

كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما ذبح على النصب‏}‏‏.‏

وكانت هذه النصب ثلاثمائة وستين حجرًا مجموعة عند الكعبة، كانوا يذبحون عندها لآلهتهم ولم تكن أصنامًا، وذلك أن الأصنام كانت تماثيل وصورًا مصورة، وأما النصب فكانت حجارة مجموعة‏.‏

وقال ابن زيد‏:‏ ما ذبح على النصب، وما أهل به لغير الله واحد، ومعنى ‏(‏أهل به لغير الله‏)‏‏:‏ ذكر عليه غير اسم الله من أسماء الأوثان التى كانوا يعبدونها، وكذلك المسيح وكل اسم سوى الله‏.‏

قال الطبرى‏:‏ ومعنى ‏(‏ما أهل به لغير الله‏)‏‏:‏ ما ذبح للآلهة والأوثان، فسمى عليه غير اسم الله‏.‏

واختلف الفقهاء فى ذلك‏:‏ فكره عمر، وابن عمر، وعائشة ما أهل به لغير الله‏.‏

وعن النخعى والحسن مثله، وهو قول الثوري‏.‏

وكره مالك ذبائح النصارى لكنائسهم وأعيادهم، وقال‏:‏ لا يؤكل ما سمى عليه المسيح‏.‏

وقال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ كرهه مالك من غير تحريم‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يؤكل ما سمى عليه المسيح‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ لا يحل ما ذبح لغير الله ولا ما ذبح للأنصاب‏.‏

ورخص فى ذلك آخرون روى ذلك عن عبادة بن الصامت، وأبى الدرداء، وأبى أمامة، وقال عطاء والشعبى‏:‏ قد أحل الله ما أهل به لغير الله؛ لأنه قد علم أنهم سيقولون هذا القول وأحل ذبائحهم، وإليه ذهب الليث وفقهاء أهل الشام‏:‏ مكحول، وسعيد بن عبد العزيز، والأوزاعى قالوا‏:‏ سواء سمى المسيح على ذبيحته، أو ذبح لعيد أو كنيسة، كل ذلك حلال؛ لأنه كتابى ذبح لدينه، وكانت هذه ذبائحهم قبل نزول القرآن، وأحلها الله فى كتابه‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وإذا ثبت أن ما ذبحوه لكنائسهم، وأعيادهم، وما أهلوا به لغير الله من طعامهم المباح لنا، فلا حجة لمن حرمه ومنعه‏.‏

باب‏:‏ قول النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ فليذبح على اسم الله

فيه‏:‏ جُنْدَبِ بْنِ سُفْيَانَ، ضَحَّيْنَا مَعَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم أُضْحِيَةً ذَاتَ يَوْمٍ، فَإِذَا نَاسٌ قَدْ ذَبَحُوا ضَحَايَاهُمْ قَبْلَ الصَّلاةِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَآهُمُ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمْ قَدْ ذَبَحُوا قَبْلَ الصَّلاةِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاةِ، فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى، وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ حَتَّى صَلَّيْنَا، فَلْيَذْبَحْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ قد تقدم أن التسمية من سنن الذبح‏.‏

وفيه العقوبة فى المال؛ لمخالفة السنة، والتعزير عليها كما عاقب الذين استعجلوا فى ذى الحليفة، وإنما اتجهت العقوبة بالمنع لهم كما استعجلوه قبل وقته، من أصل السنة أن من استعجل شيئًا قبل وجوبه أنه يحرمه، كمن استعجل الميراث حرمه أيضًا، ومن استعجل الوطء فنكح فى العدة حرم ذلك أبدًا، فكذلك هؤلاء الذين عجلوا بالضحايا قبل وقتها حرموها عقوبة لهم‏.‏

باب‏:‏ ما أنهر الدم من القصب والمروة والحديد

فيه‏:‏ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ جَارِيَةً لَهُمْ كَانَتْ تَرْعَى غَنَمًا بِسَلْعٍ، فَأَبْصَرَتْ شَاةٍ مِنْ غَنَمِهَا مَوْتًا، فَكَسَرَتْ حَجَرًا فَذَبَحَتْهَا، فَقَالَ لأهْلِهِ‏:‏ لا تَأْكُلُوا حَتَّى آتِىَ النَّبِىَّ؛ صلى الله عليه وسلم، فَأَسْأَلَهُ، فَأَتَى إِلَيْهِ، فَأَمَرَ صلى الله عليه وسلم بِأَكْلِهَا‏.‏

وفيه‏:‏ رَافع أَنَّهُ قَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَيْسَ لَنَا مُدًى، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ، فَكُلْ، لَيْسَ الظُّفُرَ وَالسِّنَّ، أَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ، وَأَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ‏)‏‏.‏

وترجم لحديث رافع باب ‏(‏لا يذكى بالسن والعظم والظفر‏)‏‏.‏

المروة‏:‏ الحجارة البيض، وقيل‏:‏ إنها الحجارة التى يقدح منها النار‏.‏

واختلف العلماء فيما يجوز أن يذبح به‏.‏

فقالت طائفة‏:‏ كل ما ذكى به من شيء أنهر الدم وفرى الأوداج ولم يشرد جازت به الذكاة إلا السن والظفر؛ لنهى النبى عنهما، وإن كانا منزوعين، هذا قول النخعى والليث والشافعى وأحمد وإسحاق وأبى ثور، واحتجوا بحديث نافع، وقال مالك وأبو حنيفة‏:‏ كل ما فرى الأوداج وأنهر الدم تجوز الذكاة به، وتجوز بالسن والظفر المنزوعين، فأما إن كانا غير منزوعين، فإنه لا يجوز ذلك؛ لأنه يصير خنقًا، وفى ذلك ورد النهى، وكذلك قال ابن عباس‏:‏ ذلك الخنق؛ لأن ما ذبح به إنما يذبح بكف لا بغيرها، فهو مخنوق، وكذلك ما نهى عنه من السن إنما هو المركبة؛ لأن ذلك يكون عضا، فأما إن كانا منزوعين وفريا الأوداج فجائز الذكاة بهما؛ لأن فى حكم الحجر كل ما قطع ولم يشرد‏.‏

وإذا جازت التذكية بغير الحديد، جازت بكل شيء فى معناه‏.‏

وذكر الطحاوى‏:‏ أن طائفة ذهبت إلى أنه تجوز الذكاة بالسن والظفر المنزوعين وغير المنزوعين، واحتجوا بما روى سفيان عن سماك بن حرب، عن مرى بن قطرى، عن رجل من بنى ثعلب، عن عدى بن حاتم ‏(‏قلت‏:‏ يا رسول الله، أرسل كلبى فيأخذ الصيد، فلا يكون معى ما يذكيه به إلا المروة والعصا‏.‏

قال‏:‏ أنهر الدم بما شئت، واذكر اسم الله‏)‏‏.‏

وحديث رافع أصح من هذا الحديث فالمصير إليه أولى، ولو صح حديث عدى فكان معناه‏:‏ أنهر الدم بما شئت إلا بالسن والظفر، وزاد الطبرى‏:‏ وما كان نظيرًا لهما، وهو القرن‏.‏

قالا‏:‏ وهذه زيادة وتفسير لحديث عدى يجب الأخذ بها‏.‏

وفى حديث عدى جواز ذبيحة المرأة، وهو قول جمهور الفقهاء وذلك إذا أحسنت الذبح، وكذلك الصبى عندهم إذا أحسن الذبح، واحتجوا بحديث كعب‏.‏

واحتج الفقهاء بحديث كعب على جواز كل ما ذبح بغير إذن مالكه، وردوا بهذا الحديث على من أبى من أكل ذبيحة السارق، وهو قول يروى عن عكرمة وطاوس، وبه قال أهل الظاهر وإسحاق، وهو شذوذ لا يلتفت إليه، والناس على خلافه‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ وليس بين ذبيحة السارق وذبيحة المحرم فرق‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه تصديق الراعى والأجير فيما اؤتمن عليه حتى يظهر عليه دليل الخيانة والكذب‏.‏

باب‏:‏ ذبيحة الأعراب ونحوهم

فيه‏:‏ عَائِشَةَ، أَنَّ قَوْمًا قَالُوا لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَنَا بِاللَّحْمِ، لا نَدْرِى أَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَمْ لا، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏سَمُّوا عَلَيْهِ أَنْتُمْ وَكُلُوهُ‏)‏، قَالَتْ‏:‏ وَكَانُوا حَدِيثِى عَهْدٍ بِالْكُفْرِ‏.‏

قال المهلب‏:‏ هذا أصل أن التسمية فى الذبح ليست بفرض، ولو كانت فرضًا لاشترطت على كل حال‏.‏

والأمة مجمعة أن التسمية على الأكل مندوب إليه، وليست بفريضة، فلما نابت عن التسمية على الذبح دل أنها سنة؛ لأنه لا ينوب عن فرض، وهذا الحديث يدل أن حديث عدى بن حاتم وأبى ثعلبة محمولان على التنزه من أجل أنهما كانا صائدين على مذهب الجاهلية فعلمهما أمر الصيد والذبح دقيقه وجليله، لئلا يواقعا شبهة من ذلك، ويأخذا بأكمل الأمور فى بدو الأمر فعرفهم صلى الله عليه وسلم‏.‏

وهؤلاء القوم جاءوا مستفتين لأمر قد وقع ويقع من غيرهم، ليس لهم فيه قدرة على الأخذ بالكمال فى بدئه، فعرفهم صلى الله عليه وسلم بأصل ما أحله الله لهم، ولم يقل لعدى‏:‏ إنك إن فعلت فإنه حرام، ولكن قال له‏:‏ ‏(‏لا تأكل فإنى أخاف‏)‏ فأدخل عليه الشبهة التى يجب التنزه عنها، والأخذ بالأكمل قبل مواقعتها‏.‏

ويدل على صحة هذا المعنى أنه قد يشتد قبل وقوع الأمر ولا يشتد بعد وقوعه‏:‏ قصة اللعن لشارب الخمر قبل شربها، ونهيه عن اللعنة بعد شربها بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تعينوا الشيطان على أخيكم‏)‏‏.‏

باب ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَشُحُوم أَهْلِ الْحَرْبِ وَغَيْرِهِمْ

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وقال الزُّهْرِىُّ‏:‏ لا بَأْسَ بِذَبِيحَةِ نَصَارَى الْعَرَبِ، وَإِنْ سَمِعْتَهُ يُسَمِّى لِغَيْرِ اللَّهِ، فَلا تَأْكُلْ، وَإِنْ لَمْ تَسْمَعْهُ، فَقَدْ أَحَلَّهُ اللَّهُ، وَعَلِمَ كُفْرَهُمْ‏.‏

وَيُذْكَرُ عَنْ عَلِىٍّ نَحْوُهُ‏.‏

وقال الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ‏:‏ لا بَأْسَ بِذَبِيحَةِ الأقْلَفِ‏.‏

وقال ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ طَعَامُهُمْ‏:‏ ذَبَائِحُهُمْ‏.‏

فيه‏:‏ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، كُنَّا مُحَاصِرِينَ قَصْرَ خَيْبَر، فَرَمَى إِنْسَانٌ بِجِرَابٍ فِيهِ شَحْمٌ، فَنَزَوْتُ لآخُذَهُ، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ أباح الله لعباده المؤمنين ذبائح أهل الكتاب بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ‏(‏وأجمعوا أنه أريد بطعامهم فى هذه الآية ذبائحهم‏.‏

اختلفوا فى شحومهم المحرمة عليهم إذا ذكروها، فكرهها مالك، وقال ابن القاسم وأشهب‏:‏ إنها حرام‏.‏

وأجاز أكلها الكوفيون والثورى والأوزاعى والليث والشافعى، واعتل من حرمها بأن الله إنما أباح لنا ما كان طعامًا لهم من ذبائحهم، والشحم ليس بطعام لهم فدليله أن ما ليس بطعام لهم فلا يحل لنا، وأيضًا فإنهم لا يقصدونه بالذكاة، والذكاة تحتاج إلى قصد، بدليل أنها لا تصح من المجنون والمبرسم، فجرت مجرى الدم الذى فى الشاة‏.‏

قال المهلب‏:‏ والحجة لمن أجازها‏:‏ أن الشحوم محرمة عليهم لا علينا؛ لأن ذبائحهم حلال لنا، فما وقع تحت ذبائحهم مما هو فى شريعتنا مسكوت عنه بالتحريم فهو حلال بإطلاق الله لنا‏.‏

فإن قيل‏:‏ لما لم تعمل ذكاتهم فى الدم شيئًا لم يجب أن تعمل فى الشحوم‏.‏

قيل‏:‏ الدم منصوص على تحريمه علينا، وعلى كل أمة‏.‏

والشحوم محرمة عليهم لا علينا‏.‏

ألا ترى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما‏}‏ الآية، وليس للشحوم فيها ذكر‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ ومن حجة من لم يحرمها أن التذكية لا تقع على بعض الشاة دون بعض، ولما كانت الذكاة شائعة فى جميعها دخل الشحم فى التذكية؛ لأنها إذا ذكيت ذبحت كلها، ثم إذا فصل الشحم فهو المحرم عليهم، وكرهناه نحن بعد أن سبقت الذكاة فيه، وحديث ابن مغفل فى قصة جراب الشحم واضحة فى جوازه؛ لأنه لو كان حرامًا لزجره عنه صلى الله عليه وسلم، وأعلمه تحريمه؛ لأنه يلزمه فرض التبليغ، وبيان ما أنزل إليه من ربه، إذ كان الأغلب أن يهود خيبر لا يذبح لهم مسلم، ويحتمل أن يكون ذلك الشحم الذى فى الجراب من الشحم الذى لم يحرم عليه؛ إذ الآية حرمت بعض الشحم دون بعض‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فنزوت لآخذه‏)‏ قال صاحب الأفعال‏:‏ نزى نزوًا ونزا ونزوانًا‏:‏ وثب‏.‏

ونزى على الشيء‏:‏ ارتفع‏.‏

وقد تقدم الاختلاف فى ذبائح أهل الكتاب للأصنام فى باب‏:‏ ‏(‏ماذبح على النصب والأصنام‏)‏ ويذكر ما لم يذكر هناك‏.‏

ذكر البخارى عن على‏:‏ أنه أجاز ذبائح نصارى العرب إن لم تسمعه يسمى لغير الله‏.‏

وذكر الطبرى عن على فى نصارى بنى تغلب خلاف ما ذكره البخاري‏.‏

روى عن عبيدة عن على أنه سأله عن ذبائح نصارى العرب فقال‏:‏ لا تأكل ذبائحهم، فإنهم لم يتمسكوا من دينهم إلا بشرب الخمر، وهو قول ابن سيرين والنخعي‏.‏

وقال مكحول‏:‏ لا تأكلوا ذبائح بنى تغلب، وكلوا ذبائح تنوخ وبهذا ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ فمن نهى عن أكل ذبائحهم، فيجب على مذهبه أن ينهى عن نكاح نسائهم‏.‏

وقال آخرون‏:‏ أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم حلال، روى ذلك عن ابن عباس وقرأ‏:‏ ‏(‏ومن يتولهم منكم فإنه منهم ‏(‏وعن الشعبى والحسن وعطاء والحكم مثله‏.‏

قال الطبرى‏:‏ فإذا كان الاختلاف بين بنى تغلب موجودًا بين السلف، وكانت تغلب تدين بالنصرانية، ولا تدفع الأمة أن عمر أخذ منها الجزية بين ظهرانى المهاجرين والأنصار من غير نكير، وكان أخذه ذلك بمعنى أنهم أهل كتاب، لا بمعنى أنهم مجوس، صح أنهم أهل كتاب، وأن ذبائحهم ونساءهم حلال للمسلمين‏.‏

وأما ذبيحة الأقلف فروى عن ابن عباس أنها لا تؤكل‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ واتفق عوام أهل الفتيا من أهل الأمصار على جوازها؛ لأن الله أباح ذبائح أهل الكتاب، وفيهم من لا يختتن، فذبيحة المسلم الذى ليس بمختون أولى بالإباحة‏.‏

فإن قيل‏:‏ فما معنى قوله‏:‏ ‏(‏وطعامكم حل لهم ‏(‏وهم لا يؤمنون بالقرآن‏؟‏ قال ابن قتيبة‏:‏ فالذى عندى أن القصد بالتحليل لنا، وإن كان القول لهم كأنه قال‏:‏ أحل لكم طعام أهل الكتاب أن تأكلوه، وأحل لكم أن تطعموهم طعامكم، ولو لم يقل‏:‏ ‏(‏وطعامكم حل لهم ‏(‏لم نعلم إن كان يجوز لنا أن نطعم الكفار طعامنا‏.‏

باب مَا نَدَّ مِنَ الْبَهَائِمِ

فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَحْشِ وَأَجَازَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ‏.‏

وقال ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ مَا أَعْجَزَكَ مِنَ الْبَهَائِمِ مِمَّا فِى يَدَيْكَ فَهُوَ كَالصَّيْد، وَفِى بَعِيرٍ تَرَدَّى فِى بِئْرٍ مِنْ حَيْثُ قَدَرْتَ عَلَيْهِ فَذَكِّهِ، وَرَأَى ذَلِكَ عَلِىٌّ وَابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ‏.‏

فيه‏:‏ رَافِع، قُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا ملاقُو الْعَدُوِّ غَدًا، وَلَيْسَتْ مَعَنَا مُدًى، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏اعْجَلْ- أَوْ أَرِنْ- مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ فَكُلْ، لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ، وَسَأُحَدِّثُكَ، أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ‏)‏، وَأَصَبْنَا نَهْبَ إِبِلٍ وَغَنَمٍ، فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ فَرَمَاهُ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّ لِهَذِهِ الْبَهَائِمِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ، فَإِذَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا شَيْءٌ، فَافْعَلُوا بِهِ هَكَذَا‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فى الإنسى الذى لا يحل إلا بالذكاة فى الحلق واللبة إذا توحش فلم يقدر عليه، أو وقع فى بئر فلم يوصل إلى حلقه ولبته، فذهبت طائفة من العلماء إلى أنه يقتل بما يقتل به الصيد، ويجوز أكله‏.‏

روى ذلك البخارى عن خمسة من الصحابة، وقاله من التابعين عطاء وطاوس، ومن الفقهاء‏:‏ الثورى، وسائر الكوفيين، والشافعى وأحمد وإسحاق و أبو ثور‏.‏

وقال ابن المسيب‏:‏ لا يكون ذكاة كل إنسية إلا بالذبح والنحر، وإن شردت لاتحل بما يحل به الصيد‏.‏

وهو قول ربيعة ومالك والليث‏.‏

واحتج الكوفيون بحديث رافع بن خديج، وقالوا‏:‏ موضع الدلالة من الحديث من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه لو كان رمى فلم ينكر النبى عليه الرمى؛ بل أقره عليه، وإباحة مثل ذلك الرمى بأن قال‏:‏ ‏(‏اصنعوا به هكذا‏)‏ ومن خالفنا لا يجيز رميه‏.‏

والدلالة الثانية‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏إن لها أوابد كأوابد الوحش‏)‏ ورسول الله لا يعلمنا اللغة، وإنما يعلمنا الحكم، فعلم أنه أراد أنه يصير حكمه حكم الوحشى فى الذكاة‏.‏

قالوا‏:‏ ومن جهة القياس أنه لما كان الوحشى إذا قدر عليه لم يحل إلا بما يحل به الإنسى؛ لأنه صار مقدورًا عليه، فكذلك ينبغى فى الإنسى إذا توحش وامتنع أن يحل بما يحل به الوحشي‏.‏

واحتج الآخرون فقالوا‏:‏ لا تلزم هذه الحجة؛ لو كان المستأنس إذا استوحش كالوحشى فى الأصل، لوجب أن يكون حكمه حكم الوحشى فى الجزاء فيه إذا قتله المحرم، وفى أنه لا يجوز فى الضحايا والعقيقة، ويجب أن يصير ملكًا لمن أخذه ولا شيء على قاتله‏.‏

قال مالك‏:‏ لو أن رجلا رماها فقتلها غرمها، ولم يحل له أكلها، ولو كانت بمنزلة الصيد حلت له، فلما أجمعنا على أن جميع أحكامه التى كانت عليه قبل أن يتوحش لم تزل ولم تتغير، وكانت كلها بخلاف الوحشى فى الأصل، كذلك الذكاة‏.‏

وأما احتجاجهم بحديث رافع بن خديج فنقول‏:‏ يجوز إذا ند ولم يقدر عليه أن يرميه ليحبسه ثم يلحقه فيذكيه، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فاصنعوا به هكذا‏)‏ أى‏:‏ ارموه لتحبسوه، ثم ذكوه، ولم يرد قتله كما يقتل الوحشى، قاله ابن القصار، وقد تقدم بعض هذا المعنى فى أول كتاب الذبائح‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏أعجل أو أرنى ما أنهر الدم‏)‏ وهكذا وقعت هذه اللفظة فى رواية الفربرى بالألف والراء والنون والياء بعدها‏.‏

ولم أجد لها معنى يستقيم به الكلام، وأظنها مصحفة والله أعلم‏.‏

وقال الخطابى‏:‏ هذا حرف طالما استثبت فيه الرواة، وسألت عنه أهل العلم باللغة فلم أجد عند واحد منهم شيئًا يقطع بصحته، وقد طلبت له مخرجًا فرأيته يتجه لوجوه‏:‏ أحدها‏:‏ أن يكون ماخوذًا من قولهم‏:‏ أران القوم فهم مرينون، إذا هلكت مواشيهم، فيكون معناه‏:‏ أهلكها ذبحًا وأزهق أنفسها بكل ما أنهر الدم غير السن والظفر، هذا إذا رويته بكسر الراء على رواية أبى داود السجستاني‏.‏

والوجه الثانى‏:‏ أن يقال‏:‏ أرأن القوم مهموز على وزن أعرن من أرن يأرن أرنا إذا نشط وخف، يقول‏:‏ خف وأعجل لئلا يقتلها خنقًا، وذلك أن غير الحديد لا يمور فى الذكاة موره، والأرن الخفة والنشاط، يقال فى مثل سمن فأرن أى‏:‏ بطر‏.‏

والوجه الثالث‏:‏ أن يكون أرن بمعنى‏:‏ أدم الحز ولا تفتر من قولك‏:‏ رنوت النظر إلى الشيء إذا أدمته أو يكون أراد‏:‏ أدم النظر إليه وراعه ببصرك لا تزول عن المذبح‏.‏

قال الخطابى‏:‏ وأقرب من هذا كله‏:‏ أن يكون أرز بالزاى من قولك‏:‏ أرز الرجل أصبعه إذا أناخها فى الشيء، وأرزت الجرادة إرزازًا، إذا أدخلت ذنبها فى الأرض لكى تبيض‏.‏

وارتز السهم فى الجدار إذا ثبت، هذا إن ساعدته رواية والله أعلم بالصواب‏.‏

قال الخطابى‏:‏ حدثنا به ابن داسة عن أبى داود قال‏:‏ أرن مكسورة الراء على وزن عرِن، ورواه البخارى ساكنة الراء على وزن عرْن، هكذا حدثنى الخيام عن إبراهيم بن مغفل عنه‏.‏

قال المؤلف‏:‏ فعرضت قول الخطابى على بعض أئمة اللغة والنقد فى كلام العرب فقال لى‏:‏ أما الوجه الأول الذى قال‏:‏ هو مأخوذ من قولهم‏:‏ أرن القوم فهم مرينون‏.‏

فلا وجه له؛ لأن أران لا يتعدى إلى مفعول لا تقول أران الرجل غنمه ولا أرن غنمك‏.‏

وقوله فى الوجه الثانى‏:‏ أرأن على وزن أعرن خطأ؛ لاجتماع همزتين فى كلمة إحداهما ساكنة، وإنما تقول فى الأمر من هذه اللفظة ائرن، بياء بعد همزة الوصل بدلا من الهمزة التى هى فاء الفعل؛ لأن المستقبل منها يأرن، والأمر إنما يكون فى الفعل المستقبل‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وهذا الوجه أولى بالصواب والله أعلم فكأنه قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ أعجل وانشط فى الذبح؛ لأن السنة فيه سرعة الإجهاز على المذبوح بخلاف فعل الجاهلية فى تعذيب الحيوان، ويمكن أن يكون ‏(‏أو‏)‏ جاءت لشك المحدث فى أى اللفظين قال- عليه السلام- لتقاربهما فى المعنى أو تكون ‏(‏أو‏)‏ جاءت بمعنى الواو للتأكيد والله أعلم‏.‏

وقول الخطابى‏:‏ وأقرب من هذا كله‏:‏ أن يكون أرز بالزاء، فلا وجه له؛ لعدم الرواية به‏.‏

باب النَّحْرِ وَالذَّبْحِ

وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ‏:‏ لا ذَبْحَ وَلا مَنْحَرَ، إِلا فِى الْمَذْبَحِ وَالْمَنْحَرِ، قُلْتُ‏:‏ أَيَجْزِى مَا يُذْبَحُ أَنْ أَنْحَرَهُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، ذَكَرَ اللَّهُ ذَبْحَ الْبَقَرَةِ، فَإِنْ ذَبَحْتَ شَيْئًا يُنْحَرُ جَازَ، وَالنَّحْرُ أَحَبُّ إِلَىَّ، وَالذَّبْحُ قَطْعُ الأوْدَاجِ، قُلْتُ‏:‏ فَيُخَلِّفُ الأوْدَاجَ حَتَّى يَقْطَعَ النِّخَاعَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لا إِخَالُ‏.‏

وَنَهَى ابْنَ عُمَرَ عَنِ النَّخْعِ، يَقُولُ‏:‏ يَقْطَعُ مَا دُونَ الْعَظْمِ، ثُمَّ يَدَعُ حَتَّى الْمُوتَ،‏)‏ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 54‏]‏ وَقَالَ‏:‏ ‏(‏فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 71‏]‏ وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ الذَّكَاةُ فِى الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسٌ‏:‏ إِذَا قَطَعَ الرَّأْسَ فَلا بَأْسَ‏.‏

فيه‏:‏ أَسْمَاءَ، نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم فَرَسًا، فَأَكَلْنَاهُ‏.‏

هكذا رواه جماعة عن هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء‏:‏ ‏(‏ذبحنا على عهد رسول الله فرسًا ونحن بالمدينة فأكلناه‏)‏ ذكره البخارى‏.‏

قال المؤلف‏:‏ غرضه فى هذا الباب أن يبين أن ما يجوز فيه النحر يجوز ذبحه، وما يجوز فيه الذبح يجوز نحره، فأما البقر فالأئمة مجمعون على جواز النحر والذبح فيها، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ‏(‏وروت عمرة عن عائشة أنها قالت‏:‏ ‏(‏دخل علينا يوم النحر بلحم، فقيل‏:‏ نحر رسول الله عن أزواجه البقرة‏)‏ فجاز فيها الوجهان‏:‏ وأراد البخارى أن يريك أن الفرس مما يجوز فيه النحر والذبح، لما جاء فيه من اختلاف الرواية، وسأذكر اختلاف العلماء فى أكله فى باب بعد هذا إن شاء الله‏.‏

واختلفوا فى ذبح ما ينحر من الإبل ونحر ما يذبح من الغنم، فأجاز أكثر الفقهاء أى ذلك فعل المذكي‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ روى ذلك عن عطاء، والزهرى، وقتادة‏.‏

وقال أبو حنيفة والثورى والليث والشافعى نحو ذلك ويكرهونه، ولم يكرهه أحمد وإسحاق وأبو ثور، وهو قول عبد العزيز بن أبى سلمة فى ذبح الإبل أو نحر ما يذبح من طير أو غيره من غير ضرورة‏.‏

وقال أشهب‏:‏ إن ذبح بعيرًا من غير ضرورة لم يؤكل، واعتل أصحابه بأن النبى صلى الله عليه وسلم بين وجه الذكاة فنحر الإبل وذبح الغنم والطير، ولا يجوز تحويل شيء من ذلك عن موضعه مع القدرة عليه إلا بحجة واضحة‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ لا أعلم أحدًا حرم أكل ما نحر مما يذبح، أو ذبح ما ينحر، وإنما كره ذلك مالك ولم يحرمه، وقد يكره المرء الشيء ولا يحرمه، وحجة الجمهور أنه لما جاز فى البقر والخيل الذبح والنحر، جاز ذلك فى كل ما تجوز تذكيته؛ ألا ترى قول ابن عباس‏:‏ ‏(‏الذكاة جائزة فى الحلق واللبة‏)‏ ولم يخص شيئًا من ذلك دون شيء فهو عام فى كل ذى حلق وكل ذى لبة، والناس على هذا ولم يخالف ذلك غير مالك وحده‏.‏

وأما قول ابن عباس‏:‏ إن الذكاة فى الحلق واللبة‏.‏

فمعناه‏:‏ أن الذكاة لا تكون إلا فى هذين الموضعين‏.‏

وقال صاحب العين‏:‏ اللبة واللب من الصدر‏:‏ أوسطه، ولبة القلادة واسطتها‏.‏

واختلف العلماء فيما يكون بقطعه من الحلقوم الذكاة‏.‏

فقال بعض الكوفيين‏:‏ إذا قطع ثلاثة من الأوداج جاز‏.‏

والأوداج أربعة وهى‏:‏ الحلقوم والمريء وعرقان من كل جانب عرق‏.‏

وقال الثورى‏:‏ إذا قطع الأوداج جاز وإن لم يقطع الحلقوم وحكى ابن المنذر عن محمد بن الحسن‏:‏ إذا قطع الحلقوم والمريء وأكثر من نصف الأوداج ثم يدعها تموت فلا بأس بأكلها وأكره ذلك، فإن قطع أقل من نصف الأوداج فلا خير فيها‏.‏

وقال مالك والليث‏:‏ يحتاج أن يقطع الودجين والحلقوم، وإن ترك شيئًا منها لم يجز‏.‏

ولم يذكر المريء‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ أقل ما يجزىء من الذكاة قطع الحلقوم والمريء، وينبغى أن يقطع الودجين، فإن لم يفعل فيجزىء؛ لأنهما يسلان من البهيمة والإنسان ويعيشان‏.‏

وقال ابن جريح‏:‏ قال عطاء‏:‏ الذبح‏:‏ قطع الأوداج‏.‏

قلت‏:‏ فإن ذبح ذابح فلم يقطع أوداجها‏؟‏ فقال‏:‏ ما أراه إلا قد ذكاها، فليأكلها‏.‏

وروى يحيى عن ابن القاسم فى الدجاجة والعصفور والحمام، إذا أجيز على أوداجه ونصف حلقه أو ثلثه فلا بأس بذلك إلا أن يتعمد‏.‏

وفى العتبية‏:‏ فى سماع أبى زيد عن ابن القاسم عن مالك فيمن ذبح ذبيحة فأخطأ بالغلصمة أن تكون فى الرأس أنها لا تؤكل، وقاله أشهب وأضبغ وسحنون ومحمد بن عبد الحكم‏.‏

قال ابن حبيب‏:‏ إنما لم يؤكل؛ لأن الحلقوم إنما هو من العقدة إلى ما تحتها، وليس فوق العقدة إلى الرأس حلقوم، وإنما العقدة طرف الحلقوم، فمن جهل فذبح فوق العقدة لم يقطع الحلقوم، إنما قطع الجلدة المتعلقة بالرأس، فلذلك لم يؤكل‏.‏

وأجاز أكلها ابن وهب فى العتبية، وأجازه أشهب وأبو مصعب وموسى بن معاوية من رواية ابن وضاح‏.‏

وذكر ابن أبى زيد، عن أبى لبابة، عن محمد بن عبد الحكم أنها تؤكل‏.‏

قال ابن لبابة على قياس قول القاسم‏:‏ إذا جازت فى البدن وبقى فى الرأس منها مقدار حلقة الخاتم أنها تؤكل إلا أن يبقى فى الرأس منها ما لا يستدير فلا تؤكل‏.‏

وحكى ابن المنذر عن أبى حنيفة أنه لا بأس بالذبح فى الحلق كله، أسفله وأوسطه وأعلاه‏.‏

وقال ابن وضاح‏:‏ سألت موسى بن معاوية عن هذه المسألة، فغضب وقال‏:‏ هذه من مسائل المريسى وابن علية يخلطون على الناس دينهم‏.‏

قد علم رسول الله أصحابه كل شيء حتى الخراءة أفكان يدعهم لا يعرفهم الذبح‏؟‏ قال موسى‏:‏ لقد كتبت بالعراق نحوًا من مائة ألف حديث، وبمكة كذا وكذا ألف وبمصر نحوًا من أربعين ألف حديث ما سمعت لرسول الله ولا لأصحابه ولا للتابعين فيها شيئًا، وكان يحيى بن يحيى وأصحابه يقولون‏:‏ ما نعرف العقدة، ما فرى الأوداج فكل‏.‏

قال ابن وضاح‏:‏ ثم بلغنى عن أبى زيد بن أبى الغمر أنه روى عن ابن القاسم، عن مالك كراهتها، فلما قدمت مصر سألته عنها، فأنكرها وقال‏:‏ ما أعرف هذا‏.‏

قلت له‏:‏ فما تقول فى أكلها‏؟‏ قال‏:‏ لا بأس بذلك‏.‏

قال ابن وضاح‏:‏ ولم تعرف العقدة فى أيام مالك، ولا أيام ابن القاسم، وإنما أول ما سمعوا بها أن عبد الله بن عبد الحكم ذبح شاة فطرحت العقدة إلى الجسد، فأمر بها أن تلقى، فبلغ ذلك أشهب فأنكره، وأجاز أكلها‏.‏

وسئل عنها أبو مصعب بالمدينة، وذلك أن أهل المدينة يطرحون العقدة فى ذبائحهم إلى الجسد بمعنى الجلود، فأجاز ذلك، فقيل له‏:‏ إذا طرحها إلى الجسد لم يذبح فى الحلق إنما يذبح فى الرأس، فانتهره الشيخ، وقال‏:‏ مغاربة برابر يأتوننا يريدون أن يعملونا هذه دار السنة والهجرة، وبها كان المهاجرون والأنصار، فكانوا لا يعرفون الذبح‏؟‏ ولم يذكروا عقدة ولم يعبئوا بها‏.‏

قال ابن وضاح‏:‏ ثم سألت بمكة يعقوب بن حميد بن كاسب ولم أر بالحجاز أعلم بقول المدنيين منه فقال‏:‏ لا بأس بها، فرددت عليه، فنزع بحديث عائشة‏:‏ ‏(‏أن ناسًا سألوا النبى صلى الله عليه وسلم أن ناسًا يأتوننا بلحمان لا ندرى أسموا الله عليها أم لا، فقال رسول الله‏:‏ سموا وكلوا‏)‏ فقال ابن كاسب‏:‏ فهلا قال لهم رسول الله‏:‏ انظروا إن كانوا يصيبون العقدة إن كان الذبح إنما هو فيها، ونزع بحديث عطاء بن يسار‏:‏ أن امرأة كانت ترعىغنمًا فرأت بشاة موتها، فذكتها بشظاظ، فقال النبى صلى الله عليه وسلم- ‏(‏ليس بها بأس فكلوها‏)‏ فهلا قال لهم صلى الله عليه وسلم‏:‏ انظروا أين طرحت العقدة، أو هل كانت هذه تعرف العقدة‏.‏

قال ابن وضاح‏:‏ ما فرى الأوداج، وقطع الحلقوم فكل‏.‏

وأما قوله‏:‏ فنهى ابن عمر عن النخع، فقال أبو عبيدة‏:‏ الفرس هو النخع، يقال منه‏:‏ فرست الشاة ونخعتها وذلك أن ينتهى الذبح إلى النخاع، وهو عظم فى الرقبة‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ أما النخع فكما قال أبو عبيدة، وأما الفرس فقد خولف فيه فقيل‏:‏ هو كسر رقبة الذبيحة‏.‏

وممن كره نخع الشاة إذا ذبحت سوى ابن عمر‏:‏ عمر بن الخطاب وقال‏:‏ لا تعجلوا الأنفس حتى تزهق‏.‏

وكرهه إسحاق‏.‏

وكرهت ذلك طائفة، وأباحت أكله، هذا قول النخعى والزهرى ومالك وأبى حنيفة والشافعى وأحمد وأبى ثور‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ ولا حجة لمن منع أكلها؛ لأن القياس أنها حلال بعد الذكاة، والنخع لا يحرم الذكي‏.‏

أما إذا قطع الرأس فأكثر العلماء على إجازته، وممن روى عنه سوى من ذكره البخارى‏:‏ على بن أبى طالب وعمران بن حصين‏:‏ ومن التابعين‏:‏ عطاء والنخعى والشعبى والحسن والزهرى، وبه قال مالك والكوفيون والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وكرهها ابن سيرين ونافع والقاسم وسالم ويحيى بن سعيد وربيعة، والصواب‏:‏ قول من أجازها‏.‏

وقد قال فيها على بن أبى طالب‏:‏ هى ذكاة وحية‏.‏

إلا أنهم اختلفوا إن قطع رأسها من قفاها، فأجازه الكوفيون والشافعى وإسحاق وأبو ثور، وكره ذلك ابن المسيب وقال‏:‏ لابد فى الذبح من المذبح‏.‏

وهو قول مالك وأحمد بن حنبل، وقالوا‏:‏ فاعل هذا فاعل غير ما أمر به، فإذا ذبحها من مذبحها فسبقت يده فأبان الرأس فلا شىء عليه‏.‏

باب‏:‏ ما يكره من المثلة والمصبورة والمجثمة

فيه‏:‏ أَنَسٍ أنَّهُ َرَأَى صبيانًا قد نَصَبُوا دَجَاجَةً يَرْمُونَهَا، فَقَالَ أَنَسٌ‏:‏ نَهَى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُصْبَرَ الْبَهَائِمُ‏.‏

وفيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَغُلامٌ مِنْ بَنِى يَحْيَى رَابِطٌ دَجَاجَةً يَرْمِيهَا، فَمَشَى بها ابْنُ عُمَرَ حَتَّى حَلَّهَا، ثُمَّ أَقْبَلَ بِهَا وَبِالْغُلامِ مَعَهُ، فَقَالَ‏:‏ ازْجُرُوا غُلامَكُمْ عَنْ أَنْ يَصْبِرَ هَذَا الطَّيْرَ لِلْقَتْلِ، فَإِنِّى سَمِعْتُ النَّبِىَّ؛ صلى الله عليه وسلم، نَهَى أَنْ تُصْبَرَ بَهِيمَةٌ، أَوْ غَيْرُهَا لِلْقَتْلِ، وَإِنَّ النَّبىِّ لَعَنَ مِنْ فَعَلَ هَذَا‏.‏- وَقَالَ مرةً‏:‏ لَعَنَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ مَثَّلَ بِالْحَيَوَانِ‏.‏

وَعَن ابْنِ عَبَّاسٍ، مثله‏.‏

وقال ابْن عُمَرَ أيْضًا‏:‏ إن النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ النُّهْبَةِ وَالْمُثْلَةِ‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ قال أبو زيد وابن عمرو وغيرهما فى نهيه صلى الله عليه وسلم أن تصبر البهائم‏:‏ هو الطائر وغيره من ذوات الروح، يصبر حيا ثم يرمى حتى يقتل وأصل الصبر‏:‏ الحبس، وكل من حبس شيئًا فقد صبره‏.‏

ومنه قيل للرجل يقدم فيضرب عنقه‏:‏ قتل صبرًا‏.‏

عنى‏:‏ أمسك للموت‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ فأما المجثمة فهى المصبورة أيضًا، ولكنها لا تكون إلا فى الطير والأرانب وأشباه ذلك مما يجثم بالأرض‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وقال أحمد وإسحاق‏:‏ لا تؤكل المصبورة والمجثمة‏.‏

قال غيره‏:‏ ولا أعلم أحدًا من العلماء أجاز أكل المصبورة وكلهم يحرمها؛ لأنه لا ذكاة فى المقدور عليه إلا فى الحلق واللبة‏.‏

قال المهلب‏:‏ وهذا إنما هو نهى عن العبث فى الحيوان وتعذيبه من غير مشروع‏.‏

وأما تجثيمها للنحر وما شاكله فلا بأس به، وإنما يكره العبث لحديث شداد بن أوس أن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن الله كتب الإحسان على كل شيء؛ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته‏)‏ وكره أبو هريرة أن تحد الشفرة والشاة تنظر إليها، وروى أن النبى صلى الله عليه وسلم رأى رجلا أضجع شاة، فوضع رجله على عنقها، وهو يحد شفرته فقال له صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ويلك، أردت أن تميتها موتات‏؟‏ هلا أحددت شفرتك قبل أن تضجعها‏)‏ وكان عمر بن الخطاب ينهى أن تذبح الشاة عند الشاة، وكرهه ربيعة أيضًا، ورخص فيه مالك‏.‏

وقال الطبرى‏:‏ فى نهيه صلى الله عليه وسلم عن صبر البهائم الإبانة عن تحريم قتل ما كان حلالا أكله من الحيوان إذا كان إلى تذكيته سبيل، وذلك أن رامى الدجاجة بالنبل ومتخذها غرضًا قد تخطىء رميته موضع الذكاة فيقتلها، فيحرم أكلها، وقاتله كذلك غير ذابحه ولا ناحره، وذلك حرام عند جميع الأمة، ومتخذه غرضًا مقدم على معصية ربه من وجوه‏:‏ منها‏:‏ تعذيبه ما قد نهى عن تعذيبه، وتمثيله ما قد نهى عن التمثيل به، وإماتته بما قد يحظر عليه إصابته به، وإفساده من ماله ما كان له إلى إصلاحه والانتفاع به سبيل بالتذكية، وذلك من تضييع المال المنهى عنه‏.‏

وقال ابن عمر‏:‏ من اتخذ شيئًا ممن فيه الروح غرضًا لم يخرج من الدنيا حتى تصيبه قارعة‏.‏

وقال عبد الله بن عمر وقد أبصر قومًا يفعلون ذلك بطائر‏:‏ أما إنهم سيقادون لها‏.‏

وذكر الطبرى عن قتادة، وعن عكرمة، عن ابن عباس‏:‏ أن النبى نهى عن المجثمة‏.‏

قال‏:‏ المجثمة التى التصقت بالأرض، وحبست على القتل والرمى، فإذا جثمت من غير أن يفعل ذلك بها فهى جاثمة‏.‏

وفى كتاب الأفعال‏:‏ قال‏:‏ جثم على ركبتيه جثومًا‏.‏

ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأصبحوا فى ديارهم جاثمين‏}‏‏.‏

قال الطبرى‏:‏ ويحتمل قوله صلى الله عليه وسلم عن المجثمة معنين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يكون نهيًا عن رميها بعد تجثيمها فيكون المعنى فيها النهى عن تعذيبها بالرمى والضرب‏.‏

والثانى‏:‏ أن يكون معنى النهى عنها عن أكل لحمها إذا هى ماتت بالضرب والرمى؛ لأنها إذا ماتت كذلك بعد أن تجثم، فهى ميتة؛ لأنها لا تجثم إلا بعد أن تصاد، ولو كانت هى الجاثمة من قبل نفسها، ولم يقدر على صيدها إلا بالرمى، فرماها ببعض ما يخرجها ليحبسها، فماتت من رميه كانت حلالا؛ لأنها حينئذ جاثمة لا مجثمة، وهى صيد صيد بما يصاد به الوحش‏.‏

ونهيه صلى الله عليه وسلم عن المجثمة نظير نهيه عن المصبورة، غير أن التجثيم عند العرب هو فى الممتنعات من الوحش والطير الذى ينبذ بالأرض ويجثم بها، وأن الصيد المصبر يكون فى ذلك وغيره، فإن وجه موجه معنى نهيه صلى الله عليه وسلم عن المجثمة بالمعنى الأول؛ كان ذلك نظير نهيه صلى الله عليه وسلم عن صبر البهائم، وذلك نهى عن تعذيبها، وإن وجهه إلى المعنى الثانى، وهو النهى عن أكل لحمها إذا ماتت من الرمى؛ كان ذلك نظير نهيه تعالى عن المنخنقة والموقوذة والمتردية، وتحريمه أكلها إذا ماتت من ذلك، وإن جثمت فرست ولم تمت فذبحها مجثمها كان حلالا أكلها بالتذكية‏.‏

باب‏:‏ الدجاج

فيه‏:‏ أَبُو مُوسَى رَأَيْتُ النَّبِىَّ؛ صلى الله عليه وسلم، يَأْكُلُ دَجَاجة‏.‏- وَقَالَ زَهْدَمٍ الجرمى‏:‏ كُنَّا عِنْدَ أَبِى مُوسَى، وَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ هَذَا الْحَىِّ مِنْ جَرْمٍ إِخَاءٌ، فَأُتِىَ بِطَعَامٍ فِيهِ لَحْمُ دَجَاجٍ، وَفِى الْقَوْمِ رَجُلٌ جَالِسٌ أَحْمَرُ، لَمْ يَدْنُ مِنْ طَعَامِهِ، فَقَالَ‏:‏ ادْنُ، فَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ مِنْهُ‏.‏

قَالَ‏:‏ إِنِّى رَأَيْتُهُ أَكَلَ شَيْئًا فَقَذِرْتُهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

فذكر الحديث‏.‏

قال الطبرى‏:‏ كان ابن عمر لا يأكل الدجاجة حتى يقصرها أيامًا؛ لأنها تأكل العذرة‏.‏

قال غيره‏:‏ وكان يتأول أنها من الجلالة التى نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن أكلها‏.‏

روى سعيد بن أبى عروبة، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس ‏(‏أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن الإبل الجلالة‏)‏ وكان ابن عمر إذا أراد أن يأكل بيض الدجاجة قصرها ثلاثة أيام‏.‏

وكره الكوفيون لحوم الإبل الجلالة حتى تحبس أيامًا‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ أكرهه إذا لم تكن أكلته غير العذرة، أو كانت أكثر أكله، وإذا كان أكثر علفها غيره لم أكرهه‏.‏

وقال مالك والليث‏:‏ لا بأس بلحوم الجلالة كالدجاج، وما يأكل‏.‏

قال أبو حنيفة‏:‏ الدجاجة تخلط، والدجاجة لا تأكل إلا العذرة وهى التى تكره‏.‏

فالعلماء مجمعون على جواز أكل الجلالة‏.‏

وقد سئل سحنون عن خروف أرضعته خنزيرة‏؟‏ فقال‏:‏ لا بأس بأكله‏.‏

قال الطبرى‏:‏ والعلماء مجمعون على أن حملا أو جديًا غذى بلبن كلبة أو خنزيرة أنه غير حرام أكله، ولا خلاف أن ألبان الخنازير نجسة، كالعذرة‏.‏

قال غيره‏:‏ والمعنى فيه أن لبن الخنزيرة لا يدرك فى الخروف إذا ذبح بذوق ولا شم ولا رائحة، فقد نقله الله وأحاله كما يحيل الغذاء، فإنما حرم الله أعيان النجاسات المدركات بالحواس، فالدجاجة والإبل الجلالة وما شاكلها لا يوجد فيها أعيان العذرات، وليس ذلك بأكثر من النبات الذى ينبت فى العذرة، وهو طاهر حلال بإجماع، ولا يخلو الزرع من ذلك‏.‏

وإنما النهى عن الجلالة من جهة التقذر والتنزه لئلا يكون الشأن فى علف الحيوان النجاسات، والنهى عن الجلالة ليس بقوى الإسناد‏.‏

باب‏:‏ لحوم الخيل

فيه‏:‏ أَسْمَاءَ، قَالَتْ‏:‏ نَحَرْنَا فَرَسًا عَلَى عَهْدِ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم فَأَكَلْنَاهُ‏.‏

وفيه‏:‏ جَابِر، نَهَى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم، يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ، وَرَخَّصَ فِى لُحُومِ الْخَيْلِ‏.‏

اختلف العلماء فى أكل لحوم الخيل، فكرهه مالك وأبو حنيفة والأوزاعي‏.‏

وقال أبو يوسف ومحمد والشافعى‏:‏ حلال أكلها‏.‏

واحتج من كره أكلها بما رواه ثور بن يزيد عن صالح بن يحيى بن المقدام، عن أبيه، عن جده، عن خالد بن الوليد ‏(‏أن رسول الله نهى عن لحوم الخيل والبغال والحمير‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ ومن جهة النظر أنه لو كانت الخيل تؤكل لوجب أن يؤكل أولادها، فلما اتفقنا على أن الأم إذا كانت من الخيل والأب حمار لم يؤكل ما تولد منهما، علمنا أن الخيل لا تؤكل؛ ألا ترى أن ولد البقرة يتبع أمه فى جواز الأضحية به، وإن كان أبوه وحشيا فلو كانت الخيل تؤكل تبع الولد أمه فى ذلك‏.‏

واحتج الذين أجازوا أكلها بتواتر الأخبار فى ذلك، وأن أحاديث الإباحة أصح من أحاديث النهي‏.‏

قالوا‏:‏ ولو كان ذلك مأخوذًا من طريق النظر لما كان بين الخيل الأهلية والحمر الأهلية فرق، ولكن الآثار عن النبى إذا صحت أولى أن يقال بها من النظر، لا سيما وقد أخبر جابر فى حديثه أن النبى صلى الله عليه وسلم أباح لهم لحوم الخيل فى وقت منعه إياهم لحوم الحمر، فدل ذلك على اختلاف حكم لحومها قاله الطحاوى‏.‏

باب لُحُومِ الْحُمُرِ الإنْسِيَّةِ فِيهِ سَلَمَةَ، عَنِ النَّبِىِّ، صلى الله عليه وسلم

فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ نَهَى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأهْلِيَّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ‏.‏

وفيه‏:‏ عَلِىّ، نَهَى النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمُتْعَةِ عَامَ خَيْبَرَ، وَعَنْ لُحُومِ الحُمُرِ الإنْسِيَّةِ‏.‏

وفيه‏:‏ جَابِر، نَهَى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ، وَرَخَّصَ فِى لُحُومِ الْخَيْلِ‏.‏

وفيه‏:‏ الْبَرَاءِ، وَابْنِ أَبِى أَوْفَى نَهَى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ‏.‏

وفيه‏:‏ أَبُو ثَعْلَبَةَ، قَالَ‏:‏ حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لُحُومَ الْحُمُرِ الأهْلِيَّةِ‏.‏

رواه صالح والزُّبَيْدِىّ وَعُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ‏.‏

وقال مَالِكٌ وَمَعْمَرٌ وَالْمَاجِشُونُ وَيُونُسُ وَابْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِىِّ‏:‏ نَهَى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ كُلِّ ذِى نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ‏.‏

وفيه‏:‏ أَنَس، أَنَّ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم جَاءَهُ جَاءٍ، فَقَالَ‏:‏ أُكِلَتِ الْحُمُرُ، ثُمَّ جَاءَهُ جَاءٍ، فَقَالَ‏:‏ أُفْنِيَتِ الْحُمُرُ، فَأَمَرَ مُنَادِيًا، فَنَادَى فِى النَّاسِ‏:‏ ‏(‏إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأهْلِيَّةِ، فَإِنَّهَا رِجْسٌ‏)‏، فَأُكْفِئَتِ الْقُدُورُ، وَإِنَّهَا لَتَفُورُ بِاللَّحْمِ‏.‏

وفيه‏:‏ عَمْرو، قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ يَزْعُمُونَ أَنَّ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ لحم الْحُمُرِ الأهْلِيَّةِ‏.‏

فَقَالَ‏:‏ قَدْ كَانَ يَقُولُ ذَاكَ الْحَكَمُ بْنُ عَمْرٍو الْغِفَارِىُّ عِنْدَنَا بِالْبَصْرَةِ، وَلَكِنْ أَبَى ذَاكَ الْبَحْرُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَرَأَ‏:‏ ‏(‏قُلْ لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا‏}‏ الآية ‏[‏الأنعام‏:‏ 145‏]‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ فقهاء الأمصار مجمعون على تحريم الحمر، وروى خلاف ذلك عن ابن عباس فأباح أكلها، وروى مثله عن عائشة، والشعبي‏.‏

وقد روى عنهم خلافه‏.‏

قال الطحاوى، وقد افترق الذين أباحوا أكل الحمر على مذاهب فى معنى نهيه صلى الله عليه وسلم عن أكلها، فقال قوم‏:‏ إنما نهى رسول الله عنها إبقاء على الظهر ليس على وجه التحريم‏.‏

ورووا فى ذلك حديث يحيى بن سعيد، عن الأعمش قال‏:‏ حدثت عن عبد الرحمن بن أبى ليلى قال‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏ما نهى رسول الله يوم خيبر عن أكل لحوم الحمر الأهلية إلا من أجل أنها ظهر‏)‏ وابن جريح، عن نافع، عن ابن عمر قال‏:‏ ‏(‏نهى رسول الله عن أكل الحمار الأهلى يوم خيبر، وكانوا قد احتاجوا إليها‏)‏‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ فكان من الحجة عليهم أن جابرًا قد أخبر أن النبى أطعمهم يومئذ لحوم الخيل، ونهاهم عن لحوم الحمر، فهم كانوا إلى الخيل أحوج منهم إلى الحمر‏.‏

فدل تركه منعهم أكل لحوم الخيل أنهم كانوا فى بقية من الظهر، ولو كانوا فى قلة منه حتى احتيج لذلك أن يمنعوا من أكل لحوم الحمر لكانوا إلى المنع من أكل لحوم الخيل أحوج؛ لأنهم يحملون على الخيل كما يحملون على الحمر، ويركبون الخيل بعد ذلك لمعان لا يركبون لها الحمر، فدل أن العلة التى ذكروها ليست هى علة منعها‏.‏

وقال آخرون‏:‏ إنما منعوا منها لأنها كانت تأكل العذرة، ورووا فى ذلك حديث شعبة عن الشيبانى قال‏:‏ ‏(‏ذكرت لسعيد بن جبير حديث ابن أبى أوفى وأمر النبى صلى الله عليه وسلم بإكفاء القدور يوم خيبر، فقال‏:‏ إنما نهى عنها، لأنها كانت تأكل العذرة‏)‏ فكان من الحجة عليهم فى ذلك أنه لو لم يكن جاء فى هذا إلا الأمر بإكفاء القدور لاحتمل ما قالوا، ولكن قد جاء هذا وجاء النهى فى ذلك مطلقًا؛ حدثنا على بن معبد حدثنا شبابة بن سوار، حدثنا أبو زيد عبد الله بن العلاء، حدثنا مسلم بن مشكم كاتب أبى الدرداء قال‏:‏ سمعت أبا ثعلبة الخشنى يقول‏:‏ ‏(‏أتيت النبى صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ يا رسول الله، حدثنى ما يحل لى مما يحرم عليّ فقال‏:‏ لا تأكل الحمار الأهلى، ولا كل ذى ناب من السباع‏)‏ فكان كلام الرسول فى هذا الحديث جوابًا لسؤال أبى ثعلبة إياه عما يحل له مما يحرم عليه، فدل ذلك أن نهيه صلى الله عليه وسلم عنها لا لعلة تكون فى بعضها دون بعض من أكل العذرة وشبهها ولكن لها فى أنفسها‏.‏

وقال قوم‏:‏ إنما نهى عنها رسول الله؛ لأنها كانت نهبة، واحتجوا بما روى يحيى بن أبى كثير عن النحاز الحنفى، عن سنان بن سلمة، عن أبيه ‏(‏أن النبى- صلى الله عليه وسلم- مر يوم خيبر بقدور فيها الحمر حمر الناس فأمر بها فأكفئت، فكان من الحجة عليهم فى ذلك أن قوله‏:‏ ‏(‏حمر الناس‏)‏ يحتمل أن تكون نهبوها من الناس، ويحتمل أن تكون نسبتها إلى الناس؛ لأنهم يركبوها فيكون وقع النهى عنها؛ لأنها أهلية لا لغير ذلك‏.‏

وقد بين أنس فى حديثه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لهم‏:‏ ‏(‏أكفئوها، لأنها رجس‏)‏ فدل أن النهى وقع عنها لأنها رجس لا لأنها نهبة‏.‏

وروى سلمة بن الأكوع أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لهم‏:‏ ‏(‏أكفئوا القدور واكسروها‏.‏

قالوا‏:‏ يا رسول الله أو نغسلها قال‏:‏ ‏(‏أو ذاك‏)‏ فدل ذلك على أن النهى كان لنجاسة لحومها، لا لأنها نهبة؛ ألا ترى لو أن رجلا غصب شاة فذبحها وطبخ لحمها أن قدره التى طبخ فيها لا تنجس وأن حكمها حكم ما طبخ فيه لحم غير مغصوب، فدل أمره بغسلها على نجاسة ما طبخ فيها، وعلى أن الأمر بطرح ما كان فيها لنجاسته، وكذلك من غصب شاة فذبحها وطبخها أنه لا يؤمر بطرح لحمها فى قول أحد من الناس، فلما انتفى أن يكون نهيه صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الحمر بمعنى من هذه المعانى التى ادعاها الذين أباحوا لحمها، ثبت أن نهيه كان عنها فى أنفسها‏.‏

فإن قيل‏:‏ فقد رويتم عن ابن عباس ما احتج به من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لا أجد فيما أوحى إلى محرمًا‏}‏ الآية‏.‏

قيل له‏:‏ ما قاله رسول الله أولى مما قاله ابن عباس، وما قاله رسول الله هو مستثنى من الآية، وعلى هذا ينبغى أن يحمل ما جاء عن رسول الله مجيئًا متواترًا فى الشيء المقصود إليه بعينه مما قد أنزل الله فى كتابه آية مطلقة على ذلك الجنس، فيكون ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم مستثنى من تلك الآية غير مخالف لها، حتى لا يضاد االقرآن السنة، ولا السنة القرآن‏.‏

قال غيره‏:‏ وأما حديث أبى ثعلبة فلا يصح فيه تحريم الحمر، إنما يصح فيه ما رواه مالك عن ابن شهاب أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كل ذى ناب من السباع، ومن ذكر فيه بهذا الإسناد الحمر فقد وهم؛ لأن مالكًا ومعمرًا وابن الماجشون، ويونس ابن يزيد أثبت فى ابن شهاب من صالح بن كيسان والزبيدى وعقيل‏.‏

باب‏:‏ أكل كل ذى ناب من السباع

فيه‏:‏ أَبُو ثَعْلَبَةَ، أَنَّ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِى نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ‏.‏

اختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث، فذهب الكوفيون والشافعى إلى أن النهى فيه على التحريم، ولا يؤكل ذو الناب من السباع ولا ذو المخلب من الطير، ولا تعمل الذكاة عند الشافعى فى جلود السباع شيئًا، ولا يجوز الانتفاع بها إلا أن تدبغ‏.‏

وذكر ابن القصار أن الذكاة عاملة فى جلودها عند مالك وأبى حنيفة، فإن ذكى سبع فجلده طاهر، يجوز أن يتوضأ فيه، ويجوز بيعه وإن لم يدبغ، والكلب منها، إلا الخنزير خاصة‏.‏

والشافعى يحلل من السباع الضبع والثعلب خاصة، وقال ابن القصار‏:‏ إن محمل النهى فى هذا الحديث عن أكل ذى ناب من السباع عند مالك على الكراهية لا على التحريم‏.‏

قال‏:‏ والدليل على أن السباع ليست بمحرمة كالخنزير اختلاف الصحابة فيها، وقد كان ابن عباس وعائشة إذا سئلا عن أكلها احتجا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لا أجد فيما أوحى إلى محرمًا‏}‏ الآية‏.‏

ولا يجوز أن يذهب التحريم على مثل ابن عباس وعائشة مع مكانهما من رسول الله ويدركه غيرهما‏.‏

ولا يجوز أن ينسخ القرآن بالنسبة إلا بتاريخ متفق عليه، فوجب مع هذا الخلاف ألا نحرمها كالميتة، ونكرهها؛ لأنه لو ثبت تحريمها لوجب نقله من حيث يقطع العذر‏.‏

وقد روى عن الرسول أنه أجاز أكل الضبع وهو ذو ناب‏.‏

فبان بهذا أنه صلى الله عليه وسلم أراد بتحريم كل ذى ناب من السباع الكراهية‏.‏

وقال الكوفيون والشافعى‏:‏ ليس فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه ‏(‏حجة لمن خالفنا؛ لأن سورة الأنعام مكية، وقد نزل بعد هذا قرآن فيه أشياء محرمات، ونزلت سورة المائدة بالمدينة وهى من آخر ما نزل، وفيها تحريم الخمر وتحريم المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة‏.‏

وحرم رسول الله من البيوع أشياء كثيرة‏.‏

ونهيه صلى الله عليه وسلم عن أكل ذى ناب من السباع كان بالمدينة؛ لأنه رواه عنه متأخرو أصحابه‏:‏ أبو هريرة، وأبو ثعلبة، وابن عباس‏.‏

وقد حرم رسول الله نكاح المرأة على عمتها وخالتها، ولم يقل أحد من العلماء أن قوله‏:‏ ‏(‏وأحل لكم ما وراء ذلكم ‏(‏يعارض ذلك؛ بل جعلوا نهيه عن نكاح المرأة على عمتها وخالتها زيادة بيان على ما فى الكتاب‏.‏

واختلفوا هل المراد بالنهى عن أكل كل ذى ناب من السباع جميعها أو بعضها، فقال الشافعى‏:‏ إنما أراد رسول الله بالنهى ما كان يعدو على الناس، ويفترس مثل الأسد، والذئب، والنمر، والكلب العادى وشبهه مما فى طبعه فى الأغلب أن يعدو، وما لم يكن يعدو فلم يدخل فى النهى فلا بأس بأكله واحتج بحديث الضبع فى إباحة أكلها، وأنها سبع‏.‏

ولابن حبيب شيء نحو هذا، قال فى جلود السباع العادية‏:‏ إن ذكيت فلا تباع ولا يصلى عليها، وينتفع بها فى غير ذلك، وأما السبع الذى لا يعدو إذا ذكى جاز بيعه ولباسه والصلاة عليه‏.‏

وعند الكوفيين النهى فى ذلك على العموم، فلا يحل عندهم أكل شيء من سباع الوحش كلها ولا الهر الوحشى ولا الأهلى؛ لأنه سبع، ولا الضبع ولا الثعلب؛ لعموم نهيه صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذى ناب من السباع‏.‏

قالوا‏:‏ فما دخل عليه اسم ‏(‏سبع‏)‏ فهو داخل تحت النهي‏.‏

قالوا‏:‏ وليس حديث الضبع مما يعارض به حديث النهى؛ لأنه انفرد به عبد الرحمن بن أبى عمار عن جابر، وليس بمشهور بنقل العلم ولا هو حجة إذا انفراد فكيف إذا خالفه من هو أثبت منه‏؟‏ وقد قال سعيد بن المسيب‏:‏ إن الضبع لا يصلح أكلها‏.‏

وهو قول الليث‏.‏

وقال ابن شهاب‏:‏ الثعلب سبع لا يؤكل‏.‏

ومالك يكره أكل ما يعدو من السباع وما لا يعدو من غير تحريم‏.‏

ومن أجاز من السلف أكل الضبع والثعلب، روى عن ابن عمر بن الخطاب أنه كان لا يرى بأسًا بأكل الضبع ويجعلها صيدًا‏.‏

وعن على بن أبى طالب، وسعد بن أبى وقاص، وجابر، وأبى هريرة مثله‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ لقد رأيتها على مائدة ابن عباس‏.‏

وبه قال عطاء، ومالك، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأجاز الثعلب‏:‏ طاوس وقتادة واحتجا بأنه يؤذى، وقالا‏:‏ كل شيء يؤذى فهو صيد‏.‏

وأما الضب فقد ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم جواز أكله‏.‏

وقال ابن مسعود‏:‏ لا بأس بأكل الوبر، وهو عندى مثل الأرنب؛ لأنه يغتذى البقول والنبات‏.‏

وأجاز أكله طاوس، وعطاء‏.‏

وأجاز عروة وعطاء اليربوع، وكره الحسن أكل الفيل؛ لأنه ذو ناب، وأجاز أكله أشهب‏.‏

واختلفوا فى سباع الطير فروى ابن وهب عن مالك أنه قال‏:‏ لم أسمع أحدًا من أهل العلم قديمًا ولا حديثًا بأرضنا ينهى عن أكل كل ذى مخلب من الطير، وقال أبو حنيفة والشافعى‏:‏ لا يؤكل‏.‏

ورووا فى ذلك حديث شعبة، عن الحكم، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس، عن النبى صلى الله عليه وسلم ‏(‏أنه نهى عن أكل كل ذى ناب من السباع ومخلب من الطير‏)‏ ودفع أصحاب مالك هذا الحديث وقالوا‏:‏ لا يثبت‏.‏

وقد أوقفه جماعة على ابن عباس ولم يسمعه منه ميمون، وإنما رواه عن سعيد بن جبير عنه‏.‏

وقد روى عن ابن عباس خلافه، وما يدل على أنه ليس عن النبى صلى الله عليه وسلم وإنما هو قول لابن عباس ثم رجع عنه‏.‏

وقد روى عمرو بن دينار، عن أبى الشعثاء، عن ابن عباس أنه قال‏:‏ كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذرًا، فبعث الله نبيه، وأنزل كتابه، وأحل حلاله، وحرم حرامه، وما سكت عنه يعنى لم ينزل فيه شيء فهو معفو وتلا‏:‏ ‏(‏قل لا أجد فيما أوحى إلى محرمًا ‏(‏الآيتين‏.‏

فإن صح حديث النهى فيجوز أن يكون نهى عنها؛ لأن النفس تعافها لأكلها الأنجاس فى الأغلب، والله أعلم‏.‏

باب‏:‏ جلود الميتة

فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏هَلا اسْتَمْتَعْتُمْ بِإِهَابِهَا‏)‏، قَالُوا‏:‏ إِنَّهَا مَيِّتَةٌ، قَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا‏)‏‏.‏

لم يذكر صالح بن كيسان فى حديث ابن شهاب الدباغ، وتابعه مالك، ومعمر، ويونس‏.‏

وقد ذكر ابن عيينة، والأوزاعى، والزبيدى، وعقيل، عن ابن شهاب ‏(‏الدباغ‏)‏ فى هذا الحديث‏.‏

وذكر الدباغ فى حديث ابن عباس من رواية ابن وعلة وعطاء عن ابن عباس ثابت محفوظ، فمعنى قوله‏:‏ ‏(‏هلا استمتعتم بإهابها‏)‏ يعنى‏:‏ بعد الدباغ؛ لأنه معلوم أن تحريم الميتة قد جمع إهابها وعصبها ولحمها، فإنما أباح الانتفاع بجلدها بعد دباغه بدليل ابن وعلة عن ابن عباس‏:‏ ‏(‏إذا دبغ الإهاب فقد طهر‏)‏ وبدليل حديث عائشة‏:‏ ‏(‏أن النبى صلى الله عليه وسلم أمر أن يستمتع بجلد الميتة إذا دبغ‏)‏ وذكره مالك فى الموطأ، وعلى هذا جمهور العلماء وأئمة الفتوى‏.‏

وذكر ابن القصار أن هذا آخر قول مالك‏.‏

وهو قول أبى حنيفة والشافعي‏.‏

وفى المسألة قول ثان‏.‏

روى عن ابن شهاب أنه أجاز الانتفاع بجلود الميتة قبل الدباغ مع كونها نجسة‏.‏

وفيها قول ثالث ذهب إليه أحمد بن حنبل وهو فى الشذوذ قريب من الذى قبله ذهب إلى تحريم الجلد وتحريم الانتفاع به قبل الدباغ وبعده، واحتج بحديث شعبة، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبى ليلى عن عبد الله بن عكيم‏:‏ قرىء علينا كتاب رسول الله‏:‏ ‏(‏لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب‏)‏‏.‏

ولمالك قول آخر فيه شبه من قول أحمد وليس به، وهو أن جلود الميتة لا تطهر بالدباغ، ولكنه أجاز استعمالها فى الأشياء اليابسة وفى الماء خاصة من بين سائر المائعات فخالفه فى استعمالها‏.‏

وفيها قول آخر قاله الأوزاعى وأبو ثور قالا‏:‏ يطهر جلد ما يؤكل لحمه بالدباغ دون ما لا يؤكل‏.‏

ذكره ذلك ابن القصار‏.‏

وحجة القول الأول الذى عليه الجمهور أنه معلوم أن قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا دبغ الإهاب‏)‏ هو ما لم يكن طاهرًا من الأهب كجلود الميتات وما لم تعمل فيه الذكاة من الدواب والسباع؛ لأن الطاهر لا يحتاج إلى الدباغ للتطهير، ومحال أن يقال فى الجلد الطاهر‏:‏ إذا دبغ فقد طهر‏.‏

وفى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا دبغ الإهاب فقد طهر‏)‏ نص ودليل، فالنص منه طهارة الإهاب بالدباغ والدليل منه أن كل إهاب لم يدبغ فليس بطاهر، وإذا لم يكن طاهرًا فهو نجس، والنجس محرم، وإذا كان ذلك كذلك كان هذا الحديث مبينًا لحديث ابن عباس، وبطل بنصه قول من قال‏:‏ إن جلد الميتة لا ينتفع به بعد الدباغ، وهو قول أحمد وما ضارعه، وبطل بالدليل منه قول من قال‏:‏ إن جلد الميتة إن لم يدبغ ينتفع به، وهو قول الزهري‏.‏

قال أبو عبد الله المروزى‏:‏ وما علمت أحدًا قال هذا القول بعد الزهري‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ لم نجد عن أحد من الفقهاء جواز جلد الميتة قبل الدباغ إلا عن الليث رواه عنه ابن وهب‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ وإنما اعتمد الزهرى فى ذلك على روايته فى حديث ابن عباس‏:‏ أن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ما على أهلها لو أخذوا إهابها فانتفعوا به‏)‏ ولم يذكر ‏(‏فدبغوه‏)‏ قال‏:‏ فدل أنه يجوز الانتفاع به قبل الدباغ، فيقال‏:‏ قد روى عنه ابن عيينة والأوزاعى وغيرهم الحديث، وقالوا فيه‏:‏ ‏(‏فدبغوه وانتفعوا به‏)‏ فإذا كان الزهرى الراوى للحديثين أخذنا بالزائد منهما، ومن أثبت شيئًا حجة على من قصر عنه ولم يحفظه‏.‏

وأيضًا فإن الدباغ قد جاء من طرق متواترة عن ابن عباس، عن النبى ‏(‏أنه مر بشاة مطروحة من الصدقة، فقال‏:‏ أفلا أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا به‏)‏‏.‏

وروى الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت‏:‏ قال النبى صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏دباغ جلد الميتة ذكاته‏)‏‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وأما حديث ابن عكيم الذى أخذ به أحمد بن حنبل فيحتمل ألا يكون مخالفًا لأحاديث الدباغ، ويكون معناه‏:‏ لا تنتفعوا به ما دام ميتة غير مدبوغ؛ فإنه قد كان صلى الله عليه وسلم سئل عن الانتفاع بشحم الميتة، فأجاب فيها مثل هذا‏.‏

وروى ابن وهب، عن زمعة بن صالح، عن أبى الزبير، عن جابر‏:‏ ‏(‏أن ناسًا أتوا النبى صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ يا رسول الله، إن سفينة لنا انكسرت، وإنا وجدنا ناقة سمينة ميتة، فأردنا أن ندهن بها‏.‏

فقال رسول الله‏:‏ لا تنتفعوا بشىء من الميتة‏)‏ فأخبر جابر بالسؤال الذى كان قول النبى‏:‏ ‏(‏لا تنتفعوا من الميتة‏)‏ جوابًا له أن ذلك كان على النهى عن الانتفاع بشحومها، فأما ما دبغ منها وعاد إلى معنى الإهاب فإنه مطهر بذلك على ما تواترت به الآثار، وعلى هذا لا تتضاد الآثار‏.‏

قال المهلب‏:‏ وحجة مالك فى كراهية الصلاة عليها وبيعها وتجويز الانتفاع بها فى بعض الأشياء أن النبى صلى الله عليه وسلم أهدى حلة من حرير لعمر، وقال‏:‏ ‏(‏لم أعطكها لتلبسها، ولكن لتبيعها أو تكسوها‏)‏ فأباح له صلى الله عليه وسلم التصرف فى الحلة فى بعض الوجوه، فكذلك جلد الميتة يجوز الانتفاع به فى بعض الوجوه دون بعض‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ وأما قول الأوزاعى وأبى ثور أنه يطهر جلد ما يؤكل لحمه دون ما لا يؤكل، واحتجوا بما رواه أبو المليح الهذلى عن أبيه ‏(‏أن النبى نهى عن افتراش جلود السباع‏)‏ ولم يفرق بين أن تكون مدبوغة أو غير مدبوغة، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏دباغ الأديم ذكاته‏)‏ فأقام الدباغ مقام الذكاة، وأنه يعمل عملها، فلما لم تعمل الذكاة فيما لا يؤكل لحمه لم يعمل الدباغ فيه‏.‏

والحجة عليهما قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أيما إهاب دبغ فقد طهر‏)‏ وإنما نهى عن افتراش جلود السباع التى لم تدبغ‏.‏

و أما قولهم إن الذكاة لا تعمل فى السباع‏.‏

فإنها تعمل فيها، ويستغنى فيها عن الدباغ، إلا الخنزير وإنما لم يعمل فيه لأنه محرم العين، وحكى عن أبى يوسف وأهل الظاهر أن جلد الخنزير يطهره الدباغ، وهو قول سحنون ومحمد بن عبد الحكم، واحتجوا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أيما إهاب دبغ فقد طهر‏)‏ والصواب قول الجمهور‏.‏

والفرق بين الخنزير وغيره أن النص ورد بتحريمه، والإجماع حاصل على المنع من اقتنائه فلم تعمل الذكاة فى لحمه ولا جلده، فكذلك الدباغ لا يطهر جلده‏.‏

وأجاز مالك والكوفيون الخرازة بشعره، ومنع ذلك الشافعى لتحريم عينه‏.‏

باب‏:‏ المسك

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَا مِنْ مَكْلُومٍ يُكْلَمُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ إِلا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَكَلْمُهُ يَدْمَى، اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ وَالرِّيحُ رِيحُ مِسْكٍ‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ أَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبِىّ، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ، وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ، إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ، إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ إنما أدخل المسك فى هذا الباب ليدل على تحليله إذ أصله التحريم؛ لأنه دم، فلما تغير عن الحالة المكروهة عن الدم، وهو الزهم وبفيح الرائحة صار حلالا بطيب الرائحة، وانتقلت حاله وكانت حاله كحال الخمر تتحلل، فتحل بعد أن كانت حرامًا بانتقال الحال، وأصل هذا فى كتاب الله تعالى فى قصة موسى‏:‏ ‏(‏فألقاها فإذا هى حية تسعى قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى ‏(‏فحكم لها بما انقلبت إليه وأسقط عنها حكم ما انقلبت عنه‏.‏

قال‏:‏ وحديث أبى موسى حجة فى طهارة المسك؛ لأنه لا يجوز حمل النجاسة، ولا يأمر صلى الله عليه وسلم بذلك، فدل على طهارته، وجل العلماء على هذا‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وممن أجاز الانتفاع بالمسك‏:‏ على بن أبى طالب وابن عمر وأنس بن مالك وسلمان، ومن التابعين‏:‏ سعيد بن المسيب وابن سيرين وجابر بن زيد، ومن الفقهاء‏:‏ مالك والليث والشافعى وأحمد وإسحاق‏.‏

وخالف ذلك آخرون، ذكر ابن أبى شيبة عن عمر بن الخطاب أنه كره المسك، وقال‏:‏ لا تحنطونى به‏.‏

وكرهه عمر بن عبد العزيز وعطاء والحسن ومجاهد والضحاك‏.‏

وقال أكثرهم‏:‏ لا يصلح للحى ولا للميت؛ لأنه ميتة، وهو عندهم بمنزلة ما قطع من الميتة‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ ولا يصح ذلك إلا عن عطاء وهذا قياس غير صحيح؛ لأن ما قطع من الحى يجرى فيه الدم، وهذا ليس سبيل نافجة المسك؛ لأنها تسقط عند الاحتكاك لسقوط الشعر‏.‏

وقد روى أبو داود قال‏:‏ حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال‏:‏ حدثنا المستمر بن الريان، عن أبى نضرة، عن أبى سعيد الخدرى قال‏:‏ قال رسول الله‏:‏ ‏(‏أطيب طيبكم المسك‏)‏ وهذا نص قاطع للخلاف‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وقد روينا عن النبى بإسناد جيد أنه كان له مسك يتطيب به‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏يحذيك‏)‏ يعنى‏:‏ يعطيك‏.‏

تقول العرب‏:‏ حذوته، وأحذيته‏:‏ إذا أعطيته‏.‏

والاسم‏:‏ الحذيا مقصور‏.‏

باب‏:‏ الأرنب

فيه‏:‏ أَنَس، أَنْفَجْنَا أَرْنَبًا، وَنَحْنُ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، فَسَعَى الْقَوْمُ فَلَغِبُوا، فَأَخَذْتُهَا، فَجِئْتُ بِهَا إِلَى أَبِى طَلْحَةَ، فَذَبَحَهَا، فَبَعَثَ بِوَرِكَيْهَا- أَوْ قَالَ بِفَخِذَيْهَا- إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَقَبِلَهَا‏.‏

الأرنب أكلها حلال عند جمهور العلماء، وذكر عبد الرزاق، عن عمرو بن العاص أنه كرهها، وذكر الطبرى عن عبد الله بن عمر وابن أبى ليلى أنهما كرهاها، وعلتهم فى ذلك ما روى عن عبد الله بن عمرو أنه قال‏:‏ ‏(‏كنت قاعدًا عند النبى فجيء بها إليه، فلم يأمر بأكلها ولم ينه عنها، وزعم أنها تحيض‏)‏‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وروى عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال‏:‏ سأل رجل أبى عن الأرنب أيحل أكلها‏؟‏ قال‏:‏ وما الذى يحرمها‏؟‏ قال‏:‏ زعموا أنها تطمث كما تطمث المرأة‏.‏

فقال‏:‏ هل يعلم متى تطهر‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فإن الذى يعلم متى طمثها يعلم متى طهرها، وإنها فإنما هى حاملة من الحوامل، إن الله لم يرد شيئًا نسيه، فما قال الله ورسوله فهو كما قالا، وما لم يقولاه فعفو من الله‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وهذا مثل ما كره رسول الله الضب ولم يحرمه‏.‏

باب الضب

فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، قال‏:‏ قَالَ الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الضَّبُّ لَسْتُ آكُلُهُ، وَلا أُحَرِّمُهُ‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم بَيْتَ مَيْمُونَةَ، فَأُتِىَ بِضَبٍّ مَحْنُوذٍ، فَأَهْوَى إِلَيْهِ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ، فَقَالَ بَعْضُ النِّسْوَةِ‏:‏ أَخْبِرُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ، فَقَالُوا‏:‏ هُوَ ضَبٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَرَفَعَ يَدَهُ، فَقُلْتُ أَحَرَامٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏لا، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِى، فَأَجِدُنِى أَعَافُهُ‏)‏‏.‏

قَالَ خَالِدٌ‏:‏ فَاجْتَرَرْتُهُ، فَأَكَلْتُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْظُرُ‏.‏

قال الطبرى‏:‏ قال بهذا الخبر جماعة من السلف وأحلوا أكل الضب، روى ذلك عن عمر بن الخطاب وعائشة وابن مسعود، وقال أبو سعيد الخدرى‏:‏ إن كان أحدنا لتهدى إليه الضب المكونة أحب إليه من أن تهدى إليه الدجاجة السمينة‏.‏

رووى عن ابن سيرين، وهو قول مالك والأوزاعى والشافعي‏.‏

وقال الكوفيون‏:‏ أكلها مكروه وليست بحرام، وروى هذا القول عن أبى هريرة‏.‏

وقال آخرون‏:‏ أكل الضب حرام، واعتلوا بحديث الأعمش، عن زيد بن وهب، عن عبد الرحمن بن حسنة قال‏:‏ ‏(‏كنا مع النبى صلى الله عليه وسلم فنزلنا أرضًا كثيرة الضباب، فذبحنا منها، فبينما القدور تغلى خرج علينا رسول الله، فقال‏:‏ إن أمة من بنى إسرائيل مسخت، وإنى أخشى أن تكون هذه‏.‏

فأمرنا فأكفأناه وإنا لجياع‏)‏ وروى سفيان، عن حماد، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة‏:‏ ‏(‏أن النبى صلى الله عليه وسلم بعث إليه بضب، فأبى أن يأكله، فقلت‏:‏ ألا أطعمه السؤال‏؟‏ فقال‏:‏ لا تطعميهم مما لا نأكل منه‏)‏ قالوا‏:‏ والأخبار بالنهى عن أكلها صحيحة‏.‏

وروى عبد الرحمن البياضى، عن الحارث، عن على أنه نهى عن الضب‏.‏

والصواب فى ذلك قول من قال‏:‏ إنه حلال؛ للخبر الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه أكل على مائدته وبحضرته‏.‏

ولو كان حرامًا لم يترك صلى الله عليه وسلم أحدًا ياكله؛ إذ غير جائز أن يرى صلى الله عليه وسلم منكرًا ولا يغيره، ولا يقر أحدًا على انتهاك شيء من محارم الله، فدل أنه إنما تركه؛ لأنه عافه كما قال عمر، ولم يأت خبر صحيح بتحريمه، بل قال له عمر‏:‏ ‏(‏أحرام هو يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ لا‏)‏‏.‏

وقد روى الثورى، عن علقمة بن مرثد، عن المغيرة بن عبد الله اليشكرى، عن المعرور بن سويد، عن أبى مسعود ‏(‏أن النبى- صلى الله عليه وسلم- سألته أم حبيبة فقالت‏:‏ يا رسول الله، القردة والخنازير الذين مسخوا‏؟‏ قال‏:‏ إن الله لم يهلك- أو لم يمسخ- قومًا فيجعل لهم عاقبة ولا نسلا‏)‏‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ فبين الرسول فى هذا الحديث‏:‏ أن المسوخ لا يكون لها نسل ولا عقب، فعلمنا بذلك أن الضب لو كان مسخًا لم يبق‏.‏

وروى عن ابن عباس أنه قال‏:‏ لم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام، ولم يأكل ولم يشرب‏.‏

وأما حديث الأسود عن عائشة، فلا حجة لهم فيه؛ لأنه يجوز أن يكون كره لها أن تطعمه؛ لأنها عافته، وكان ما تطعمه للسائل إنما هو لله تعالى فأراد صلى الله عليه وسلم أن يكون ما يتقرب به إلى الله من خير الطعام، كما نهى أن يتصدق بالبر والتمر الرديئين وفى ذلك نزل‏:‏ ‏(‏ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ‏(‏وبقول مالك قال الطحاوي‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وليس فى الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قطع أن الضب من الأمة التى مسخت بأعيانها، و إنما قال‏:‏ أخشى أن تكون هذه، أو أخشى أن تكون مسخت على صورة هذه وخلقتها، لا أنها بعينها، فكرهها لشبهها فى الخلقة والصورة خلقًا غضب الله عليه فغيره عن صورته وهيئته، وعلى هذا التأويل يصح معنى قوله صلى الله عليه وسلم أن المسخ لا يعقب، ومعنى قول ابن عباس أن المسخ لا يعيش أكثر من ثلاثة، إذ لم يمسخ الله تعالى خلقًا من خلقه على صورة دابة من الدواب إلا كره إلى نبينا وأمته أكل لحم تلك الدابة، أو حرمه لتحريمه عليهم أكل لحوم الخنازير التى مسخت على صورتها أمة من اليهود، وكتحريمه لحم القردة التى مسخت على صورتها منهم أمة أخرى‏.‏

غير أن قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اخشى أن تكون هذه‏)‏ بيان واضح أنه لم يتبين أن الضب من نوع الأمة التى مسخت، ولذلك لم يحرمها، ولو تبين له منها ما تبين من القردة والخنازير لحرمها، ولكنه صلى الله عليه وسلم رأى خلقًا مشكلا يشبه المسوخ فكرهه ولم يحرمه؛ إذ لم يأته وحى من الله بذلك‏.‏

قال غيره‏:‏ وفيه من الفقه أنه يجوز للمرء أن يترك أكل ما هو حلال إذا لم يجر له بأكله عادة، ويكون فى سعة من ذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فأجدنى أعافه‏)‏ يقال‏:‏ عاف الطعام يعافه عيافًا وعيوفًا‏:‏ إذا كرهه‏.‏

المحنوذ‏:‏ المشوى، فى التنزيل‏:‏ ‏(‏جاء بعجل حنيذ ‏(‏أى‏:‏ محنوذ، حنذت اللحم حنذًا‏:‏ شويته‏.‏

باب‏:‏ إذا وقعت الفأره فى السمن الجامد أو الذائب

فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، وَمَيْمُونَةَ، أَنَّ فَأْرَةً وَقَعَتْ فِى سَمْنٍ فَمَاتَتْ، فَسُئِلَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم عَنْهَا، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوهُ‏)‏‏.‏

قيل لسفيان‏:‏ فإن معمرًا يحدثه، عن االزهرى، عن سعيد بن المسيب، عن أبى هريرة‏.‏

قال‏:‏ ما سمعت الزهرى يقول إلا عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة، عن النبى صلى الله عليه وسلم ولقد سمعته منه مرارًا‏.‏

وسئل ابن شهاب عن الدابة تموت فى الزيت أو السمن وهو جامد أو غير جامد، الفأرة أو غيرها‏.‏

قال‏:‏ بلغنا أن النبى صلى الله عليه وسلم أمر بفأرة ماتت فى سمن فأمر بما قرب منها فطرح، ثم أكل‏.‏

عن حديث عبيد الله بن عبد الله‏.‏

توقف البخارى فى إسناد معمر، عن الزهرى، عن سعيد، عن أبى هريرة؛ لأنه انفرد به معمر، عن الزهرى، وأما حديث الزهرى، عن عبيد الله، عن ابن عباس فرواه جماعة أصحاب ابن شهاب عنه بهذا الإسناد، وقد صحح الذهلى الإسنادين جميعًا عن ابن عباس، وإنما لم يدخل البخارى فى الحديث قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وإن كان مائعًا فلا تقربوه‏)‏ لأنه من رواية معمر، عن الزهرى، واستراب انفراد معمر‏.‏

وفى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ألقوها وما حولها‏)‏ دليل أن السمن كان جامدًا، لأنه لا يتمكن طرح ما حولها فى الذائب المائع؛ لأن فى الحركة يسرح بعضه بعضًا‏.‏

والعلماء مجمعون أن هذا حكم السمن الجامد تقع فيه الميتة أنها تلقى وما حولها ويؤكل سائره؛ لأن رسول الله حكم للسمن الملاصق للفأرة بحكم الفأرة، لتحريم الله الميتة، فأمر بإلقاء ما مسها منه‏.‏

وأما السمن المائع والزيت والخل والمرى والعسل وسائر المائعات تقع فيها الميتة، فلا خلاف أيضًا بين أئمة الفتوى أنه لا يؤكل منها شيء‏.‏

واختلفوا فى بيعه والانتفاع به، فقالت طائفة‏:‏ لا يباع ولا ينتفع بشيء منه، كما لا يؤكل‏.‏

هذا قول الحسن بن صالح وأحمد بن حنبل، واحتجوا بما رواه معمر، عن الزهرى، عن سعيد، عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏فإن كان مائعًا فلا تقربوه‏)‏ وبقوله‏:‏ ‏(‏لعن الله اليهود؛ حرمت عليهم الشحوم فباعوها، و أكلوا ثمنها‏)‏‏.‏

وقال آخرون‏:‏ يجوز الاستصباح به، والانتفاع فى الصابون وغيره، ولا يجوز بيعه وأكله‏.‏

هذا قول مالك والثورى والشافعي‏.‏

واحتجوا برواية عبد الواحد بن زياد، عن معمر، عن الزهرى، عن سعيد، عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏وإن كان مائعًا فاستصبحوا به‏)‏ قالوا‏:‏ وقد روى عن على بن أبى طالب وابن عمر وعمران بن حصين أنهم أجازوا الاستصباح به، وأمر ابن عمر أن تدهن به الأدم‏.‏

وذكر الطبرى عن ابن عباس مثله، وذكر ابن المنذر عن ابن مسعود وأبى سعيد الخدرى وعطاء مثله‏.‏

واحتجوا فى منع بيعه بقوله صلى الله عليه وسلم فى الخمر‏:‏ ‏(‏إن الذى حرم شربها حرم بيعها‏)‏ وبحديث النبى عن بيع الشحوم، وأيضًا فإنه قد ينتفع بما لا يجوز بيعه؛ ألا ترى أنا ننتفع بأم الولد ولا يجوز بيعها، وينتفع بكلب الصيد ويمنع من بيعه، ونطفىء الحريق بالماء النجس والخمر ولا يجوز بيعه، وهذا كله انتفاع، ذكره ابن القصار‏.‏

وقال آخرون‏:‏ ينتفع بالزيت الذى تقع فيه الميتة بالبيع وبكل شيء ما عدا الأكل‏.‏

قالوا‏:‏ يجوز أن يبيعه ويبين؛ لأن كل ما جاز الانتفاع به جاز بيعه، والابتياع من الانتفاع‏.‏

وهو قول أبى حنيفة وأصحابه والليث‏.‏

وروى عن أبى موسى أنه قال‏:‏ بيعوه وبينوا لمن تبيعونه منه، ولا تبيعونه من مسلم‏.‏

وروى ابن وهب عن القاسم وسالم أنهما أجازا بيعه وأكل ثمنه بعد البيان‏.‏

قال الكوفيون‏:‏ ويحتمل ما قال معمر من قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏و إن كان مائعًا فلا تقربوه أو فلا تقربوه‏)‏ للأكل، وليس فى تحريم الشحوم على اليهود تحريم ثمنها حجة لمن منع بيع الزيت تقع فيه الميتة؛ لأن الحديث خرج على تحريم شحوم الميتة وهى نجسة الذات، ولا يجوز بيعها ولا أكلها ولا الانتفاع بها، والزيت والسمن الذى تقع فيه الميتة إنما تنجس بالجوار، ولا ينجس بالذات، كالثوب الذى يصيبه الدم، ولذلك رأى بعض العلماء غسله، ويجوز عندهم الاستصباح به، ولا يجوز بشحوم الميتة‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ وقال أهل الظاهر‏:‏ لا يجوز بيع السمن ولا الانتفاع به إذا وقعت فيه الفأرة، ويجوز بيع الزيت والخل والمرى وجميع المائعات تقع فيه الفأرة؛ لأن النهى إنما ورد فى السمن لا فى الزيت وغيره‏.‏

وهذ إبطال للمعقول؛ لأن الرسول نص على السمن وهو مما يؤكل ويشرب، وهو من المائعات الطاهرات، كان فيه تنبيه على ما هو مثله؛ لأنه يثقل صلى الله عليه وسلم أن يقول‏:‏ الثمن والزيت والشيرج والخل والمرى والدهن والمرق والعصير وكل مائع؛ لأنه أوتى جميع الكلم، وهذا كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تقل لهما أف ‏(‏فنبه بذلك على أن كل ما كان فى معناه من الانتهار والسب فما فوقه مثله فى التحريم‏.‏

وكذلك كل مائع وقعت فيه نجاسة هو مثل السمن‏.‏

قال المؤلف‏:‏ ومما يبطل به مذهب أهل الظاهر أن يقال لهم‏:‏ ما تقولون فى السمن تموتع فيه وزغة أو حية أو سائر الحيوان‏؟‏ فإن طردوا أصلهم وقالوا‏:‏ لا ينجس السمن بموت سائر الحيوان ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ غير الفأرة التى ورد النص فيها، خرجوا من قول الأمة ومن المعقول، وإن سووا بين جميع ما يموت فى السمن من سائر الحيوان، لزمهم ترك مذهبهم‏.‏

باب‏:‏ العلم والوسم فى الصورة

فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ تُعْلَمَ الصُّورَةُ، وَقَالَ‏:‏ نَهَى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُضْرَبَ الصُّورَةُ‏.‏

وفيه‏:‏ أَنَس، دَخَلْتُ عَلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم بِأَخٍ لِى يُحَنِّكُهُ- وَهُوَ فِى مِرْبَدٍ لَهُ- فَرَأَيْتُهُ يَسِمُ شَاةً، حَسِبْتُهُ قَالَ‏:‏ فِى آذَانِهَا‏.‏

معنى قوله‏:‏ ‏(‏الوسم والعلم فى الصورة‏)‏ يريد فى الوجه وهو المكروه عند العلماء‏.‏

قال المهلب‏:‏ إنما كرهه العلماء؛ لأنه من الشين وتغيير خلق الله، وأما الوسم فى غير الوجه للعلامة والمنفعة بذلك فلا بأس به إذا كان يسيرًا غير شائن؛ ألا ترى أنه يجوز فى الضحايا وغيرها‏.‏

والدليل على أنه لايجوز الشائن من ذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم حكم أن من شان عبده أو مثل به باستئصال أنف أو أذن أو جارحة عتق عليه، وليس يعتق إن جرحه أو شق أذنه، ووسم النبى إبل الصدقة حجة على جواز ما لا يشين منه، وقد تقدم حيث يجوز الوسم من البهائم فى باب ‏(‏وسم الإمام إبل الصدقة‏)‏ فى كتاب الزكاة‏.‏

باب‏:‏ إذا أصاب قوم غنيمة فذبح بعضهم إبلا أو غنمًا بغير أمر أصحابهم لم تؤكل

لحديث رافع عن النبى صلى الله عليه وسلم، وقال طاوس وعكرمة فى ذبيحة السارق‏:‏ اطرحوه فيه‏:‏ رَافِع، إِنا لاقُو الْعَدُوَّ غَدًا- الحديث- وَتَقَدَّمَ سَرَعَانُ النَّاسِ، فَأَصَابُوا مِنَ الْغَنَائِمِ وَالنَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فِى آخِرِ النَّاسِ، فَنَصَبُوا قُدُورًا، فَأَمَرَ بِهَا، فَأُكْفِئَتْ وَقَسَمَ بَيْنَهُمْ، وَعَدَلَ بَعِيرًا بِعَشْرِ شِيَاهٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

قال المؤلف‏:‏ قوله فى الترجمة‏:‏ فذبح بعضهم إبلا أو غنمًا بغير أمر أصحابهم هم سرعان الناس الذين فعلوه دون اتفاق من أصحابهم، وقد تقدم القول فى ذلك فى كتاب الجهاد، فى باب ‏(‏ما يكره من ذبح الإبل والغنم فى المغانم‏)‏‏.‏

ومعنى أمره صلى الله عليه وسلم بإكفاء القدور هو فى أول كتاب الذبائح فلا وجه لإعادته، وأما ذبيحة السارق فلا أعلم من تابع طاوسًا وعكرمة على كراهية أكلها غير إسحاق ابن راهويه، وجماعة الفقهاء على إجازتها، وأظن البخارى أراد نصر قول طاوس وعكرمة، وجعل أمر النبى بإكفاء القدور حجة لمن كره ذبيحة السارق، ورأى الذين ذبحوا الغنائم بغير أمر أصحابهم فى معنى ذبيحة السارق حين ذبحوا ما ليس لهم؛ لأنهم إنما ذبحوا فى بلاد الإسلام بذى الحليفة قرب المدينة، وقد خرجوا من أرض العدو، فلم يكن لبعضهم أن يسأثر بشيء منها دون أصحابه، وليس فى ذلك حجة قاطعة؛ لأنه قد اختلف فى معنى أمره صلى الله عليه وسلم بإكفاء القدور، وقيل‏:‏ إنها كانت نهبة، ولا يقطع على وجه من ذلك، واختلف أيضًا فى قطع من سرق من المغنم‏.‏

باب‏:‏ إذا ند بعير لقوم فرمى بعضهم بسهم فقتله وأراد صلاحهم فهو جائز

لخبر رافع عن النبى فيه‏:‏ رَافِع، كُنَّا فِى سَفَرٍ، فَنَدَّ بَعِيرٌ مِنَ الإبِلِ، قَالَ‏:‏ فَرَمَاهُ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّ لَهَا أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ، فَمَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا، فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ معنى قوله‏:‏ أراد صلاحهم‏.‏

يعنى‏:‏ إذا علم مرادهم فأراد حبسه على أربابه، ولم يرد إفساده عليهم، فلذلك لم يضمن البعير وحل أكله؛ لأن هذا الحبس الذى حبسه بالسهم قد يكون فيه هلاكه من غير ذبح ولا نحر مشروع، وقد تقدم اختلاف العلماء فى ذلك‏.‏

وأما من قتل بعيرًا لقوم بغير أمرهم فعليه ضمانه، إلا أن تقوم بينة بأنه صال عليه‏.‏

باب إِذَا أَكَلَ الْمُضْطَرُّ

لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 172‏]‏ وَقَالَ‏:‏ ‏(‏فَمَنِ اضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ ‏(‏، وَقَوْلِهِ تعالى‏:‏ ‏{‏فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 118‏]‏، وَقَوْلِهِ‏)‏ قُلْ لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا‏}‏ الآية، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ مُهْرَاقًا‏.‏

إلى قوله‏:‏ ‏(‏فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 145‏]‏‏.‏

اختلف العلماء فى أكل المضطر الميتة، فقال مالك‏:‏ أحسن ما سمعت فى المضطر يأكل من الميتة حتى يشبع، ويتزود منها، فإذا وجد عنها غنى طرحها‏.‏

وهو قول ابن شهاب وربيعة‏.‏

وقال أبو حنيفة والشافعى‏:‏ لا يأكل منها إلا مقدار ما يمسك الرمق والنفس‏.‏

وحجتهم أن المضطر إنما أبيح له أكل الميتة إذا خاف الموت على نفسه، فإذا أكل منها ما يزيل الخوف فقد زالت الضرورة وارتفعت الإباحة فلا يحل له أكلها‏.‏

وحجة مالك أن المضطر قد أباح الله له الميتة، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه ‏(‏يعنى‏:‏ إذا أكل منها، ولم يفرق بين القليل والكثير؛ فإذا حلت له الميتة أكل منها ما شاء‏.‏

واختلف أهل التأويل فى معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏غير باغ ولا عاد ‏(‏فقال ابن عباس‏:‏ غير باغ‏:‏ فى الميتة، ولا عاد‏:‏ فى الأكل‏.‏

وقال الحسن‏:‏ غير باغ فيها ولا متعد بأكلها، وهو غنى عنها‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ غير باغ‏:‏ على الأئمة، ولا عاد‏:‏ قاطع طريق سبيل‏.‏

فإن خرج على الأئمة أو قطع الطريق فلا رخصة له فى الأكل‏.‏

فإن احتج الكوفيون والشافعى بتفسير ابن عباس، وأن معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏غير باغ ولا عاد ‏(‏يعنى غير متعد فى الأكل، وإذا شبع وتزود فهو متعد فيه‏.‏

قيل‏:‏ قد فسر مجاهد وغيره أن معنى الآية‏:‏ غير متعد على الناس وقاطع سبيلهم، وإنما معنى قول ابن عباس أن الباغى والمتعدى لا يأكلها؛ لأنه غنى عنها غير مضطر إلها، فإذا اضطر إليها لم يكن متعديًا فى شبعه؛ لأنه لا يقدر على سفره وتصرفه إلا بشبع نفسه، والتزود أولى فى حفظ النفس وحياطتها؛ لأنه لا يأمن ألا يجد ما يمسك رمقه من طعام ولا ميتة، ولعله أن يطول سفره فيهلك نفسه، والله تعالى قد حرم على الإنسان أن يتعرض لإهلاك نفسه، وسيأتى اختلاف العلماء فى شرب الخمر والبول، عند الضرورة فى كتاب الأشربة، إن شاء الله‏.‏